لبيك يا رب الحجيج والعبيد، لبيك لا شريك لك

منذ 2009-12-01

إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم، إن لم تقدر على عرفات فلنستدرج ما قد فات..




الله أكبر ما أروع أيامنا هذه... إنها أيام مباركة تشتاق فيها القلوب المؤمنة وتهفو إلى أن تحلق فى فضاء الكون لتطوف بالبيت الحرام، وكم من قلب مسلم يكاد يطير وينخلع من الجسد شوقا وعبودية وتبتل وابتهال إلى الله مردداً لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك.

الكعبة مهوى القلوب، من سافر اليها بجسده هوى قلبه إليها قبل جسده، ومن لم يسافر يحترق شوقاً وحنيناً إليها، وكيف لا والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهو بغية كل مؤمن مسلم، وهو السفر المفروض، وله السعي المحمود وقد قال عمر بن الخطاب يوماً وهو بطريق مكة:

"تشعثون وتغيرون، وتتلون، وتضحون، لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا، ما نعلم سفراً خيراً من الحجّ،
وكل الناس على الأرض تجذبها وتشدها الأرض فتهوى وتسارع الى ما على طينها تتعلق به تظن أنه منه تستمد القوة فله تتذلل وتخشع...


أما المسلم فيعلم أن القوة لله فينجذب قلبه إلى رب السماء، يأوى ويركن بقلبه وجوارحه إلى رب الأرض والسموات، فيسعى إلى بيت الله الحرام يستمد القوة والعون منه سبحانه وتعالى، يلبي ويطوف، ويسعى ويلصق صدره باب الملتزم، يتذكر ذنوبه وتقصيره في حق مولاه. وفي يوم عرفة يبتهل إلى الله، يدعو بما يشاء، يدعو بكل خير يريده في الدنيا والآخرة، يدعو لحق سُلب منه أن يرجع، وظلم وقع عليه أن يُرفع، وظالم طغى في الأرض أن يقصمه الله...

وخير ما يدعو في عرفة أن تمحى ذنوبه فلا يبقى منها شيء، كيوم ولدته أمه طاهراً من كل ذنب...

فيستغفر ويتوب، ويبكي ويخشع لله الواحد الديان، قائلا بلسانه وبقلبه وبكل جوارحه: "رباه، إن فقيراً لاذ ببابك يطلبك، يرجوك يا رباه، يا ملاذه، ويا سؤله ويا مطلبه، أنت المكرم والمنعم والمتصدق والمتفضل، يا سؤالي يا مقصدي، ومطلبي يا الله، فالعفو منك سبحانك، والإغداق منك إنعاماً، سبحانك فتقبل وأقبل برحمتك وفضلك فلا رحيم سواك، ولا متفضل إلاك، سبحانك"....


أما من لم يذهب للحج ويحترق شوقاً اليه فيقول له ابن رجب: "من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى، من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد".


ويقول ابن الجوزي لمن جلس فى بيته ولم يجلس فى بيت الله الحرام: "إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم، إن لم تقدر على عرفات فلنستدرج ما قد فات، إن لم نصل إلى الحجر فليلِن كل قلب حجِر، فيا إخوتي إن فاتنا نزول منى، فلنُنزل دموع الحسرة ها هنا، وكيف لا نبكي ولا ندرى ماذا يراد بنا؟!، وكيف بالسكون وما نعلم ما عنده لنا؟!".

ويصرخ فى الحجيج قائلاً وهم على عرفات: "أين المنيب المُجِدُّ السابق؟، هذا يوم يُرحم فيه الصادق، من لم ينُب في هذا اليوم فمتى ينيب، ومن لم يُجب في هذا الوقت ومن لم يتعرف بالتوبة فهو غريب، أسفاً لعبد لم يُغفر له اليوم ما جنى، كلما همّ بخير نقض الطود وما بنى، حضر موسم الأفراح فما حَصّل خيراً ولا اقتنى، ودخل بساتين الفلاح فما مد كفاً وما جنى، ليت شعري من منا خاب ومن منا نال المُنى؟؟".


ويبقى أنه قد جاء فى الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذا البيت، فإنه هُدم مرتين، ويُرفع في الثالثة» [صحيح الجامع للألباني]، فاللهم لا تحرمنا الاستمتاع ببيتك الحرام بالعبادة والطواف، والسعي والتلبية والذكر، والمبيت في منى، والوقوف بعرفة تضاهي بنا بفضلك ورحمتك الملائكة، يا وهاب، يا كريم، ياذا الفضل والمنة...


وأخيراً: كم من إنسان يجتهد ويتعب ليسافر لجني الأموال والمناصب والرفعة في الدنيا، وها نحن الآن أمام سفر لجني الحسنات، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وجزاؤه مقعد في الجنة لمن رضي عنه رب الأرباب.

يا رب، كثير من عبادك يقولون لبيك مالي، لبيك سلطاني، لبيك شهواتي، لبيك أهوائي، لبيك منصبي، لبيك يا دنياي، ونحن عبادك المسلمون المتشوقون إلى جنتك ورضاك، نقول بقلوبنا قبل ألسنتنا لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك، لا شريك لك، فلاتحرمنا من حج مبرور وذنب مغفور...


ممدوح إسماعيل
محام وكاتب
[email protected]
  • 0
  • 0
  • 9,351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً