[29] الأعداء الثلاثة 1-3
المرء في هذه الحياة في صراع وجهاد مع أعداء ثلاثة؛ هم: الهوى، والنفس، والشيطان، ولا بدَّ له مِن الاستعداد لمُجاهَدة كلِّ عدوٍ بما يناسبه من سلاح؛ ولذا سوف نتطرَّق إلى شيء يسير مما يتعلَّق بهؤلاء الأعداء، لنتعرف على مداخلها؛ ولنتعرف على طرق اتقاء شرورهم ومكرهم. وسيكون الحديث عنهم في خطب ثلاث متتالية: وفي هذه الخطبة سيكون الحديث عن: النفس.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
العدو الأول: النفس
الخطبة الأولى
يقول ربُّنا جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58]. في هذه الآية الكريمة يُبيِّن الله تعالى أنه خلق العباد لعبادته، وقد تكفَّل بأرزاقهم، وسخَّر لهم ما في الأرض؛ قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ومعنى الآية: أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليَعبدوه وحده لا شريك له؛ فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنه غير مُحتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم؛ فهو خالقهم ورازقهم".
عباد الله، لا شك أن مَن أقبل على الله عبادة وتقوى وطاعة وخوفًا ورجاءً وخضوعًا ومحبةً فإنه يُيسِّره لليُسرى، ويُجنِّبه العُسرى، ويَرزقه مِن حيث لا يحتسب، وليس معنى تفرُّغه أن يجلسَ ويَنقطعَ عن طلب الرزق الحلال من أبوابه المشروعة، ويَبقى عالةً على غيره، وَيُضيِّعَ مَن يقوت، وإنما المطلوب أن يَعبدَ الله وحده ويعملَ على بصيرةٍ من أمره، وأن يكون عملُه لله فيما يأتي ويَذر، حتى تكون أعمالُه الدينيَّةُ والدُّنيويةُ لله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: « » [صحيح ابن حبان:4240]، وقال صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري:5356].
وإن العادات قد تَنقلِب إلى عبادات إذا صلَحت النيَّة؛ فقد ينام العبدُ وينوي بنومه التَّقَوِّي للقيام لصلاة الفجر والصلاة في المسجد أو التقوِّي على قيام الليل، وقد يَغرسُ غرسًا فيؤكل منه فيكون له صدقة، وهذا مِن فضل الله على عبده المسلم؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » [صحيح البخاري:2320]. فيَنبغي استحضار النية الصالحة في جميع الأعمال، حتى في الحِرَف والصناعات التي يحتاج إليها الناس، فيكون ذلك مِن باب التعاون على البر والتقْوى.
والمرء في هذه الحياة في صراع وجهاد مع أعداء ثلاثة؛ هم: الهوى، والنفس، والشيطان، ولا بدَّ له مِن الاستعداد لمُجاهَدة كلِّ عدوٍ بما يناسبه من سلاح؛ ولذا سوف نتطرَّق إلى شيء يسير مما يتعلَّق بهؤلاء الأعداء، لنتعرف على مداخلها؛ ولنتعرف على طرق اتقاء شرورهم ومكرهم. وسيكون الحديث عنهم في خطب ثلاث متتالية: وفي هذه الخطبة سيكون الحديث عن: النفس:
عباد الله، إنَّ مِن الأعداء التي تَعترض العبد في طريقه إلى الله في هذه الدنيا: النفْس التي بين جنبَيه وداخل كيانه، فكثيرًا ما تكونُ عدوًا لدودًا؛ لأنها تأمُر بالسوء؛ وتسمَّى على ذلك بالنفسِ الأمارةِ بالسوء، فهي تَميل للشهوات، وتَكره القُيود، وتحبُّ الانفلاتَ والتحرُّرَ مِن كل ما تُمنَع منه، وتَضيق ذَرعًا إذا أُلزمتْ بأمر مِن الأمور.
وقد تكلَّم ابن القيم رحمه الله عن أنواع النفْس، وتكلَّم على كل نوع، فذكَر صفَةَ النفسِ المُطمئنَّة وصِفةَ النفسِ اللَّوامة ثم ذكَر صفةَ النفسِ الأمارةِ بالسوء، فقال رحمه الله: "وأما النفسُ الأمَّارةُ فهي المَذمومة؛ فإنها التي تأمُر بكل سوء، وهذا مِن طبيعتها، إلا ما وفَّقها الله وثبَّتها وأعانها، فما تخلَّص أحد مِن شرِّ نفسه إلا بتوفيق الله له، كما قال تعالى - حاكيًا عن امرأة العزيز :{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]. وقال رحمه الله: وقد امتحَن الله سبحانه الإنسانَ بهاتَين النَّفسَين الأمارةِ واللوَّامة، كما أكرَمَه بالمُطمئنَّة، فهي نفْس واحدة، تكون أمَّارةً ثمَّ لوامةً، ثم مُطمئنَّة؛ وهي غاية كَمالها وصلاحها، وأيَّد المُطمئنَّة بجُنود عديدة، فجعل المَلَك قرينَها وصاحبها الذي يَليها ويُسدِّدُها، ويقذفُ فيها الحقَّ ويُرغِّبُها فيه، ويُريها حُسنَ صورتِه، ويَزجُرُها عن الباطل؛ ويُزهِّدُها فيه.
إلى أن قال: وأما النفْسُ الأمارةُ فجعل الشيطانَ قرينَها وصاحبَها الذي يليَها، فهو يَعِدُها ويمنِّيها، ويَقذف فيها الباطل، ويَأمُرُها بالسوء، ويُزيِّنُه لها، ويُطيل في الأمل، ويُريها الباطلَ في صورةٍ تَقبَلُها وتَستحسِنُها، ويمدُّها بأنواع الإمداد الباطل؛ مِن الأمانيِّ الكاذِبة، والشهوات المُهلِكة، ويَستعين عليها بهَواها وإرادتها. إلى أن قال رحمه الله: وهي نفس واحدة، تكون أمَّارة تارة، ولوَّامة أُخرى، ومطمئنَّة أخرى، وأكثرُ الناسِ الغالبُ عليهم الأمَّارة. وأما المطمئنَّة فهي أقل النُّفوس البشرية عددًا، وأعظمها عند الله قدْرًا .
والخلاصة يا عباد الله: أن النفس تحتاج إلى مجاهدة حتى تلزم ما يُرضي الله وتألفه وتحبه، وتترك ما حرم الله وتبتعد عنه وتكرهه. والله تعالى منَح الإنسان الإرادة الحرَّة، ليَضعه موضع الامتحان، فإذا عمل خيرًا فإنه سوف يَرى خيرًا، ومَن عمل شرًّا فإنه سوف يرى شرًّا؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. رزقنا الله نفوسًا مطمئنة، ووقانا شرَّ نفوسِنا، وشرَّ كلِّ ذي شر، أقول ما سمعتم وأستغفر الله .....
الخطبة الثانية
مما سبق يتأكد لدينا أن منابع الخير والشرِّ لدى الإنسان موجودة في زوايا نفسِه، فكل ما يَعمل مِن أعمال ظاهرة - سواء كانت أعمالًا صالحةً أو أعمالًا سيِّئةً - فهي ثمرةٌ ونتيجةٌ لحرَكات نفسِه واندِفاعاتها واتِّجاهاتها الجازِمة.
فالذا يَنبغي للعبد أن يتسلَّحَ بسلاح الإيمان القوي الذي لا يُخالطه شكٌّ ولا ريب؛ للتخلُّص من شر هذه النفس، ويَحملَ نفسه على معرفة الله بصفاته وأفعاله وآلائه ومحبَّتِه وإرادتِه، والإنابةِ إليه، والإقبالِ عليه، والشوقِ إليه، والأُنسِ به، وامتثالِ أوامره، واجتنابِ نواهيه، وشُكرِه على نعمه وآلائه، حتى يكونَ اللهُ وحده هو محبوبَه وإلهَه ومعبودَه وغايةَ مَطلبه، وأن يُحقِّقَ قول الله تعالى :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وعلى العبد أن يُظهِر عجْزَ نفسِه وذلَّها بين يدَي ربِّها الذي خلقها وسوَّاها وأطعَمها وسقاها، حتى تكون نفسه مطمئنَّةً، وحتى يَصدُق فيها قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30]، وذلك بفضْل الله ورحمته وكرمه.
اللهم اجعل نُفوسنا مُطمئنَّةً إليك، راغبةً فيما عِندك، مُمتثلةً لأوامِرك، مُجتنِبةً نواهيك، اللهم إنا نعوذ بك مِن شُرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. اللهم ارزقنا نفوسًا بك مطمئنة؛ تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك؛ وتقنع بعطائك. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.