الكتاب الأزرق.. حوار مع الغزالي
سلمان بن فهد العودة
إنه يوم من أيام الله الماضية، وأنا لا ألتفت عادة للوراء إلا لمسرّاته أو دروسه..
لأول وهلة شعرت بالحرج؛ حين رأيت غلاف الكتاب الأزرق مكتوباً في أعلاه: "الشيخ سلمان"، كنتُ وقتها معيداً في كلية الشريعة أُحضِّر لرسالة الماجستير في الحديث النبوي وعلومه، وزاد الحرج أن عنوان الكتاب كان هو: "في حوار هادئ مع محمد الغزالي".
حماس الشباب الذين طبعوا الكتاب وأضفوا عليَّ لقب (الشيخ)؛ ينم عن غضبةٍ ممزوجةٍ متعددة الدوافع، حجبت عن الشيخ الكبير سناً وقدراً وعطاءً أيّ لقب وذكرته باسمه المجرَّد. ليس أمامي سبيل لتدارك هذه العثرة؛ فخمسون ألف نسخة من الكتاب هي قيد التوزيع، ولابد مما ليس منه بُد!
كانت هذه الملحوظة الشكلية المُعبِّرة أول إشارة سلبية عكّرت فرحي برؤية اسمي مخطوطاً على واجهة كتابٍ يُتوقع أن يحظى بالقبول لدى دوائر تنتظر من يُعبر عن استيائها من لغة الشيخ محمد الغزالي الحادة، ومن آرائه غير المألوفة في بيئة سلفية..
في داخلي كنت أتساءل: "ما الذي جعل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين يعتذران بلطفٍ عن تقديم الكتاب؟"
جريدة المسلمون نشرت فصولاً من الكتاب، وعديدون راهنوا عليه؛ لأنه في نظرهم حوارٌ هادئ وموضوعي، وقد حفظ حق الشيخ بكتابة مقدمة من صفحتين عن حياته وسيرته. مصري ظريف تولّى طباعة الكتاب في نسخته الأوّلية كان يُعلِّق على العنوان ويقول ضاحكاً: "لقد طبخته على نارٍ هادئة". هل أضحك أم أقطب؟ أهي مدحة أم لذعة خفية؟
تهدأ العاصفة وتصطف في مكتبتي عشرات الكتب المشابهة ترد على كتاب (السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)... لماذا كتبت؟؛ قال لي أحدهم مفسِّراً حِدَّة الشيخ الغزالي في نقده للسلفية: "هؤلاء رجال تجاوزتهم المسيرة فصاروا يرمونها بالحجارة، كنا نحسب أنفسنا مَنْ يمثِّلون القافلة".
وفي لحظة اندفاع يغفل المرء عن سُنَّة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}[الرعد:17]، وأن السُّنة تَصْدُق عليه كما تَصدُق على خصمه، ولا تحابي أحداً.
البحث كان حصيلة استعراض لكامل كتب الشيخ المنقود قديمها وحديثها. قرأتُ نتاجه العريض أبحث عن سجل أخطائه وأدونها في قصاصات، تكلّف الأخطاء، وتتبع مسار أراه بعين واحدة.. مثل هذه الروح تقتضي أن أقف مسروراً أمام العثور على ما أعتبره زلةً أو انحرافاً للكاتب؛ إنها ضالتي المنشودة أظفر بها موثَّقة معزوَّة إلى مصدر مباشر!
ولأن الجزاء من جنس العمل؛ فقد رزقني الله بإخوة أفاضل سلكوا معي الطريق ذاته، وفلوا ما أكتب فلياً باحثين عن زلاتي -وما أكثرها-، ثم صنَّفوها للتدليل على أنها لم تكن أخطاء فردية أو عثرات عابرة، بل هي منهج مدروس متواطأٌ عليه!
الآراء المتغيرة للشيخ كنت أصنفها على أنها (تناقض)، ولو شئت لقلت إنها آراء رجع عنها والحكم للمتأخر من أقواله. التاريخ العلمي حافل بالأقوال المختلفة المنسوبة للإمام أحمد، وقد تصل في المسألة الواحدة إلى ثمانية أقوال، وللشافعي مذهبان، وللحنفية والمالكية مدارس.. هل حدث للسلف أن جمعوا عثرات شيخٍ في مصنَّفٍ واحد؟ كان بعضهم يرد على بعض في مسألة، وهذا كثير يفوق الحصر، وقد يعرض أحدهم لأقوال المخالفين ضمن تصنيف لا يخصهم؛ كما فعل البخاري في رده على الأحناف في صحيحه بإشارات عابرة تحمل عنوان: "وقال بعضهم.."، لم أظفر بكتاب علمي معتبر يكون محل الأسوة جرّده مؤلفه لجمع مثالب عالم والرد عليها واحدة بعد الأخرى، قد يوجد مثل هذا لكن قصرت معرفتي دونه؛ الغالب أن الرد يكون في ثنايا بحث أوسع، أو يكون لمعالجة مسألة بعينها أو مسائل ينتظمها باب واحد. فرق بين من يهدف لبيان الحق الذي يراه، وبين من يقصد زحزحة خصمٍ عن منصةٍ سبق إليها!
نُقل عنك أنك تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت ذلك الحوار الهادئ". كلا لم أقل هذا؛ لأنني لست كثير الالتفات للوراء، لم أندم على ما مضى وقُدّر، ولكني لن أكرر ما فعلت، ولن أطبع الكتاب، وسأظل معترفاً بفضل الله عليَّ أن جعلني في قائمة البشر الخطّائين، وأعانني على تصويب نفسي وإشهار مخالفتي لذاتي، ولو بعد حين.
رحمة الله وبركاته على الشيخ الفاضل محمد الغزالي.
والحمد لله رب العالمين.