إذا قرح القلب - [04] السمت أصلٌ والمداراة استثناء

منذ 2016-01-29

هذا من فقه حسن الأدب الذي جاءنـا به الشارع، فالأصل حرية التعبير عما نكنه من أحاسيس لنا و مشاعر، إلا إذا تعارض ذلك مع مصلحة أوجبها على خلقه الآمر: تأليفًا للقلوب، اتقاءً للنقائص والعيوب، جبرًا لخاطر قريب لنا محبوب، إصلاحًا لذات بَينٍ خَرِبٍ معطوب. كل ذا من المداراة وبذل الدنيا لصلاح الدين والدنيا، وليس من المداهنة التي هي بذل الدين لصلاح الدنيا.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

قلنا: كان عليه الصلاة والسلام يعتريه ما يعتري الأنام من تغير الأحوال ككل البشر، يضحك ويحزن ويغضب ويبكي ويفرح كما صح بكل ذلكم الخبر. فكان وجهه الكريم مرآة، يعكس مكنون قلبه لكل من يراه، بسيطًا طيب القلب ما طال بين الخلق محياه، خلّد الله سنته هذه. فهل من متبع لرائق أخلاقه وجميل ذكراه؟

وذكرنا بعض الأمثلة من صحيح الخبر فكانت: غيضًا من فيض عن بساطة حاله وجميل طباعه ورقيق تعبيره ونجواه، ألم أقل أنه كان صافيًا كمرآة يصدّق ظاهره ما في قلبه أخفاه، بأعلى خُلق وألطف طباع حباه بها سيده ومولاه.

ولكن مهلًا: أكان هذا السمت ملازمًا لرسولنا الكريم أبدًا؟ أم تراه خالف ذلك الأصل أحيانًا لسبب موجب لرسولنا بدا؟

متى يجوز الخروج عن الأصل؟ مثال تطبيقي:

  • عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة». فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: "يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره».

هذا الحديث الصحيح أخرجه و ترجم له أهل العلم بتراجم مختلفة منها : 
- في حسن العشرة / كتاب الأدب / (صحيح سنن أبي داود [4160]).
- ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب/ كتاب الأدب / (صحيح البخاري [5594]).
- المداراة مع الناس / كتاب الأدب / (صحيح البخاري [5666]).
- لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا / كتاب الأدب / (صحيح البخاري [5572]).

وعلق عليه ابن حجر في كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) كتاب: الأدب / باب: ‏لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا / رقم: 5572 قائلاً: "‏قوله: أن رجلاً".

‏قال ابن بطال : "هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له الأحمق المطاع، ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم".

وقال القرطبي: "في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى". ثم قال تبعًا لعياض: "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى. وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم" انتهى بتصرف

هذا من فقه حسن الأدب الذي جاءنا به الشارع، فالأصل حرية التعبير عما نكنه من أحاسيس لنا ومشاعر، إلا إذا تعارض ذلك مع مصلحة أوجبها على خلقه الآمر: تأليفًا للقلوب، اتقاءً للنقائص والعيوب، جبرًا لخاطر قريب لنا محبوب، إصلاحًا لذات بَينٍ خَرِبٍ معطوب. كل ذا من المداراة وبذل الدنيا لصلاح الدين والدنيا، وليس من المداهنة التي هي بذل الدين لصلاح الدنيا. أنزلن الكلام على ما جاء في الحديث، يتضح المعنى المراد بلا إشكال ولا شك ولا تلبيس.

اسقاطات حياتية أو تطبيقات لنص حديثنا عملية:

- ماذا تفعلين إذا أغضبك سوء متعمد من حميك؟
- بماذا تجيبين زوجك لحاجة له وهو لا يكاد يرضيك؟
- كيف تقابلين جارة لا تنفك تؤذيك؟
- كيف تصلحين ما فسد من ذات بينٍ بينَ أهلك المقربين وذويك؟
- بماذا تجيبين محبًا تبغضينه إذا سألك (أتحبينني) متعشمًا فيك؟

مهلاً: مافات من الأمثلة ليست هي الأصل المعيش، بل سنة نبينا هي التعبير بصدق عما تكن صدورنا من مشاعر و أحاسيس، نخرج عن هذا الأصل أحياناً لمصلحة و تأليفًا لقلوب من معهم نعيش.

وبقيت لنا بعض الأمثلة النبوية في مخالطته عليه السلام لأهله والناس، نضربها لنتأمل ونتعلم كيف نعبر عن رائع الشعور ورائق الإحساس.

يتبع. 

أم هانئ

  • 3
  • 0
  • 9,802
المقال السابق
[03] تعابير نبوية في أحوال بشرية
المقال التالي
[05] بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً