خطب مختارة - [35] الادِّكار والاعتبار بانقضاء الأيام والأعمار

منذ 2016-01-31

إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، وكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركُه، {وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].

الخطبة الأولى

أما بعد: اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدرُ الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل، {يأيها الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].

أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، وكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركُه، {وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].

عباد الله، هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإن ما بعدها دارٌ إلا الجنةَ أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت وصرعت من مكبّ عليها، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابرُ سبيل» [صحيح الترمذي:2333]. وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" أخرجه البخاري. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يعظ رجلًا ويقول له: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغْلك، وحياتك قبل موتك» [صحيح الجامع:1077].

فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقعُ الرحيل، يا من تُعَدُّ عليه أنفاسه استدْرِكها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها» [صحيح مسلم:223].

ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت بابًا على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم حقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران.

عباد الله، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، أتاهم وسيأتينا هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعًا، هم في نعيم أو عذاب، وينتظرون يومًا عظيمًا تُدعى فيه الأمم إلى ربها، فتُحشر فيه الخلائق إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعًا، والقلوب تتصدع من الحساب صدعًا.

فيا من تمرّ عليه سنةٌ بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرِق في بحر الخطايا وهام، بادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرَك بتحصيل العُدَد، فقد أزف الرحيل وقَرُب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه في فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» [صحيح الترمذي:2417]

أيها المؤمنون، ليحاسبْ كلُّ واحد منا نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا بالتوبة والأعمال الصالحة إلى جنة الخلد التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» [صحيح مسلم:2836].

عباد الله لنسأل المغفرة من الكريم الرحيم العفو، ولنحسن التوبة معه سبحانه فإنه يحب التوابين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» [صحيح مسلم:2759].

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.  

الخطبة الثانية

أما بعد؛ فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أن المُسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وأن مع الحياة موتًا، وأن بعد الدنيا آخرة، وأن لكل حسنةٍ ثوابًا، ولكل سيئةٍ عقابًا إن لم يعف الله، وأن الله تعالى على كل شيءٍ رقيبًا.

 واعلموا - يا عباد الله - أنكم إليه صائرون، وعن أقوالكم مُحاسبون، وبأعمالكم مجزيون، ولا يغرنكم حِلْمُه - جل وعلا – فإنه مع سعة رحـمته وحلمه شديدُ العقاب.

إخوة الإيمان: إياكم والغفلة عن اغتنام الأوقات والأعمار في التجارة الرابحة مع الله، واحرصوا على العمل الصالح الذي تدّخرونه ليومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم. وإياكم والانشغال بالدنيا وما فيها من أموالٍ، وأولادٍ، وأزواجٍ، وزينةٍ، ومتاعٍ، ومناصب، ومشاغل؛ فإنها فانيةٌ وزائلة، وليس ينفع منها إلا ما كان في طاعة الله ورضوانه. ولا تنسوا المسارعة والمسابقة في الخيرات والتوبة من المعاصي والمنكرات فالله تعالى يقول في كتابه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. ويقول جل في عُلاه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].

اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم. اللهم اعطنا ولا تحرمنا؛ وأكرمنا ولا تُهِنا؛ وعافنا واعف عنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم؛ وتب علينا.

  • 17
  • 6
  • 7,822
المقال السابق
[34] الاحتفال بالمولد النبوي
المقال التالي
[36] الأعمال المضاعفة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً