[37] الأمانة
من الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله عزّ وجلّ فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، ومع الأسف وجودُ بعضِ الناس اليوم ممن لا يعبؤون بالأمانة، ترى العاملَ منهم في عمله لا يقوم به على وجهه الصحيح، ويتباطأ فيه، ولا يؤديه في الوقت الـمُقدر له، ولا يبالي بحاجة الناس، ومعاناتهم.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
أما بعد: يقول جلّ وعلا: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "عرضها الله على السموات والأرضِ والجبال؛ إن أدَّوها أثابهم؛ وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا، من غير معصية؛ ولكن تعظيمًا لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضت على آدم؛ فقيل: خذها بما فيها؛ فإن أطعتَ غَفرتُ لك، وإن عصيتَ عذبتُك، قال: قبلتها بما فيها؛ ..... " .
الأمانةُ -عباد الله- صفةُ الأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي كان يلقب بالأمين من قبل بعثته، وأخبر سبحانه وتعالى أن القيامَ والعنايةَ بها من شيم المؤمنين، وخصلةٌ من خصال الأخيارِ الصالحين، فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المؤمنين المفلحين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:1-8]. والأمانةُ أمر الله بحفظِها ورِعايَتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقول: « » [سنن أبي داود: 3534]
الأمانة -عباد الله- تدعو إلى رعاية الحقوق وارتفاع النفوس عن الدنايا، ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، روى الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صحيح مسلم: 143]، فالأمانة هي إذن تَمَثُّلُ الكتابِ والسنة في عمل الإنسان صاحب الضمير الحيِّ الصحيح، فإذا ذهب إيمانُه انتُـزِعت منه الأمانة، فما يغنيه عند ذلك ترديد وسماع الآيات والأحاديث، ولذلك نجد أدعياءَ الإسلام يزعمون للناس أنهم أمناءُ على الأمة، ولكن هيهات ممن ضيَّعوا الأمانة أن يحفظوا أمتهم ودينهم، بل وحتى أن يحفظوا أنفسهم.
» [إنها الأمانة ـ عباد الله ـ التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أداءها والقيامَ بها علامةُ الإيمان؛ فقال: « » [مجمع الزوائد: 1/177]. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن تضييعَ الأمانةِ والاستهانة بها وخيانتَها نِفاقٌ وعصيان، روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » [صحيح البخاري: 6095]. فالخيانة في الأمانة صفة من صفاتِ المنافقين، وهي دليلٌ على سوء البطانة، ودليلٌ على ضعف الإيمان بالله جل وعلا.
وإن في تضييع الأمانةِ لوعيدًا شديدًا، يوم يُضرب الصراط على متن جهنم، وينادي الله جل جلاله بأن يسيرَ العبادُ عليه، وعندها تكون دعوةُ الأنبياء: اللهم سلّم سلم. فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم «
» كما روى ذلك الخبر الإمام مسلم [105] عن النبـي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أنهما يكونان من أسباب السقوط في نار جهنم لمن لم يقم بحقها.ذات يوم، في المدينة المنورة، في مجلس من المجالس المحمدية الطيبة العطرة، وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه يحدِّث القوم جاءه أعرابي فقال: «
» [صحيح البخاري: [5]. تلكم آياتٌ وأحاديثٌ تبرز أهمية الأمانة ومنـزلتَها في الدين، وخطورةَ تضييعها، تعالوا –بعد ذلك- لنتأمل بعضًا من معاني هذه الأمانة، وأين تكون؟.إخوة الإيمان، الأمانة مواطنها كثيرة، فمنها عِفّةُ الأمين عمّا ليس له بحقٍّ، ومنها تأدِيَةُ الأمين ما يجِب عليه من حقٍّ؛ سواء لله أو لخلقِ الله، وتشمل كذلك اهتمامُه بحفظِ ما استُؤمِن عليه من ودائعَ وأموالٍ وحُرَمٍ وأسرار.
فالأمانة أصلٌ في جميع العبادات والمعاملات، فالصلاة أمانة في عنقك، تؤديها في أوقاتها كاملة الشروط والواجبات، والصيامُ أمانةٌ بينك وبين الله، والزكاةُ أمانة والله مطلعٌ عليك في أدائها كاملةً أو ناقصة، والأيمانُ والعهود والمواثيق والالتزامات والمواعيد أمانة كذلك، والصحة أمانة، وسمعك وبصرك ولسانك وفؤادك أمانةٌ عندك، وسوف تسأل عنها، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36].
ومن أعظم ما تكون الخيانة في الأمانات إذا كانت خيانةً لعباد الله المؤمنين؛ بأكل أموالهم بالباطل ظلمًا وعدوانًا، أو بالكذب عليهم أو خداعهم أو غشهم أو المماطلة في إعطائهم حقوقهم، كل هذا من الخيانة للأمانة.
ومن الأمانات العظيمة الولايات العامة، كالإمارة والقضاء والرئاسة في أي مكان وغيرها، وتحمل هذه الولايات أمرٌ عظيم؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! ( يريد أن يعمل تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم) قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: « (يعني ضعيف القوة)، » [صحيح مسلم: 1825] .
إخوة الإيمان، إن أعظم التضييع لهذه الأمانات في هذه الولايات وغيرها أن يصل الأمر بالمستَأمَن إلى الغِش، روى مسلم أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الألباني.
» [صحيح مسلم: 142]. ومن تضييع الأمانة استغلال الرجل منصبَه الذي عُيِّن فيه لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته بما لا يحق له، ومن الصور الظاهرة لذلك التشبع من المال العام، وهذا جريمة، قال صلى الله عليه وسلم: « » [سنن أبي داود: 2943]، عن بريدة رضي الله عنه، وصححهوقد شدد الإسلام في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عميرة الكِندي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
» [صحيح مسلم: 1833].واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد على صدقات بني سُليم، فلما جاء حاسبه وقال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح البخاري: 6979]، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. الله أكبر! إنها الأمانة في أسمى معانيها التي ينبغي تحقيقها يا عباد الله. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.الخطبة الثانية:
ومن الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله عزّ وجلّ فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، ومع الأسف وجودُ بعضِ الناس اليوم ممن لا يعبؤون بالأمانة، ترى العاملَ منهم في عمله لا يقوم به على وجهه الصحيح، ويتباطأ فيه، ولا يؤديه في الوقت الـمُقدر له، ولا يبالي بحاجة الناس، ومعاناتهم.
ومن الأمانات العظيمة الولاياتُ الاجتماعية فالوالدان أمناء على أولادهـما، والرجل أمين على أهله، والمرأة أمينة، والخادم أمين، روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » [صحيح البخاري: 7138]. ومن الأمانة ما يتصل بالثقافة والإعلام والإرشاد والتعليم، فعلى القائمين عليها أن يراعوا الأمانة في ذلك، ويجتهدوا في أدائها بما يرضي الله جل وعلا. ومن الأمانات العظيمة العلمُ الشرعي؛ فهو أمانة في عُنق علمائه ومعلميه، يبينوه للناس ولا يكتمونه.
ومِن الأمانةِ الواجبِ مراعاتُها والقِيامِ بحقِّها إسداءُ النصيحةِ للمسلمين وإرادةُ الخير لهم، هذا جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" رواه البخاري، فالمؤمن الحق يحب الخير لأخيه المسلم كما يحبه لنفسه وتتأكد هذه النصيحة عند طلبها؛ روى أبو داود وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » [سنن الترمذي: 2822].
اللهم وفقنا لأداء ما حملنا من أمانات على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم.