خشوعٌ حتى النخاع!
أبو محمد بن عبد الله
إننا في أمس الحاجة لمثل هذه المعاني التي تبصر المسلم بحقيقة الشعائر وجوهرها وأنها ليست مجرد أقوال وأفعال تؤدى دون إدراك الحكمة العظيمة التي فرضت لأجلها وهي تحصيل الثمرة المرجوة التي تجعل المسلم ربانيا بحق في جميع ممارساته الحياتية.
- التصنيفات: فقه العبادات - تزكية النفس -
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: «»(مسلم في صحيحه، برقم:[ 771]، والترمذي، السنن، برقم:[ 3421]).
آهٍ، ما أبعدنا عن الخشوع.. سبحانه الله العظيم.. تأمّل هذا الحديث، بله الدعاء، الذي سنَّه لنا الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم في ركعاتنا.. ليس هو خشوع الجوارح الظواهر فقط، بل هو خشوع القلب النابض، والدماغ بتلافيف مُخِّه، والعظم الصلد والعصب.. إنه خشوع الباطن الذي يؤثر في سلوك الخاشع بعد مفارقة الصلاة.. فينتهي بها عن الفحشاء والمنكر..
ولقد كنت - زمانًا- أتجوَّز في تدبر خشوع السمع والبصر لربطهما بجارحتي العين والبصر الظاهرتين، وأتجوَّز في تدبر خشوع العظم والعصب لتعلقهما بحركات الأطراف والجسد الظاهر.. ولكن يقفّ شعري عند تأمل خشوع المخ!!
قال ابن رسلان: "المراد به هنا الدماغ، وأصله الودك الذي في العظم وخالص كل شيء مخه"، وقال عبد الكريم القزويني(المتوفى: 623هـ): "يمكن أن يراد به خشعتُ لك بجملتي أجزائي كالعظام والشعر، وصفاتي كالسمع والبصر، وبأصول أعضائي كالعظم والعصب، وبزوائدها كالشعر، وبالبادي مني وهو البشرة وبالباطن كالمخ والعظم"[شرحُ مُسْنَد الشَّافِعيِّ: 1/ 336].
وخشوع كل شيء سكونه أو خضوعه..
فخشوع السمع خضوعه لنداءات الحق ودعوات الخير، وعلى رأسها ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ومن خشوعه انكفافه عن سماع ما لا يُرضي الله تعالى مما فيه تعدي حدود الله المتعلقة بحقوق الخالق أو المخلوق، وخشوع البصر على دلائل الحق وشواهد الخير وأعمال الصلاح، من أشياء وأشخاص دل عليها الكتاب الكريم والهدي النبوي، ومن خشوعه انكفافه عن النظر إلى ما لا يُرضي الله تعالى مما فيه تعدي حدود الله المتعلقة بحقوق الخالق أو المخلوق..
وعلى نحوه خشوع العظم والعصب وما يتبعهما من حركات الجوارح.. فلا تتحرك إلا بدليل ولا تسكن إلا عند حدوده، وكما قال عثمان رضي الله عنه: "إن استطعت ألا تحكَّ رأسك إلا بأثرٍ فافعل" وفي اتِّباع الأثر خضوع وخشوع لله، لأن فيه أمره ونهية..
أما خشوع المخ، وما أدراك ما خشوع المخ، فهو أن يخشع مخُك فلا يفكر إلا في الله وآلائه، ما جُعِل له العقل في حدود العقول البشرية، فلا يتجاوزها إلى عوالم الغيب مما فيه تعدٍّ على خصائص الله تعالى، علَّام الغيوب فلا يظهر منها: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن: 26-27].
أو فيه تعَدٍّ على خصائص الله في علم ما في صدور الناس ومكنونات ضمائرهم، وفيه ظلم للعباد، فيُقصِّدهم ما لم يقصدوا من شر، ويحرف قصدهم عما أرادوا من خير وإحسان..
ومن خشوعه لله أن يستسلم أمام دلائل الحق، وأوامره فلا يتحذلق بخنائن مُخِّه على نور الوحي الشريف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
ومن خشوع المخ سكونه أمام أوامر الشرع ونواهيه، فلا يتفلسفها ليزحلقها تحت مطارق ضغط الواقع، أو دعوات الهوى أو نزغات الشيطان..
إنه ليس التخشع، وإنما الخشوع حتى النخاع...
هذا الخشوع، وليس خشوع الدمع والشهيق، فاللهم اللهم اجعلنا ممن خشع لك سمعه وبصره ومخه وعظمه وعصبه.. وظاهره وباطنه... في خلوته وجلوته.. آمين
01/ 02/ 2016