ردُ فعل
محمد علي يوسف
إن الاستسلام الدائم لما تُمليه الأحداث وتفرضه مجريات الأمور لن يسمح للمرء قط لا بإبداع ولا بتفكير مختلف ولا بخطوات تجديدية مغيرة للأفضل.
- التصنيفات: التصنيف العام - دعوة المسلمين -
كثير من العارفين بعلوم الحيوان يرون أن أكثر الحيوانات التي تُعد عرفا مفترسة؛ لا تلسع ولا تعض إلا خوفا وليس اعتداءً.
قد يبدو مظهر تلك الحيوانات مخيفا؛ وقد تكون لسعتها خطيرة؛ وعضتها قاتلة؛ لكن كل ذلك يظل في كثير من الأحيان مجرد أثر للخوف الكائن في أعماقها والذي أدى لذلك التصرف الذي بدا مرعبا.
إنها إذا خافت نشرت أنيابها أو مخالبها؛ ليس عدوانا على غيرها؛ ولكن دفاعا عن نفسها وحسب، وعملا بالقاعدة النابليونية الشهيرة "الهجوم خير وسيلة للدفاع"؛ أو بشكل أبسط يمكن وصف هذه التصرفات بأنها… رد فعل.
لقد كان الحيوان خائفا وكان هذا الذي اقترفه مجرد… رد فعل!
((لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه))؛ هكذا علمونا في صبانا وغرسوا في أذهاننا تلك القاعدة الفيزيائية المهمة؛ قاعدة تصلح لتعميمها على كثير من نواحي الحياة وليست الفيزياء فقط.
وهي بلا شك قاعدة معتبرة في كل الأعراف البشرية؛ وبها يُعذر المدافع دفاعا شرعيا عن النفس لأنه ببساطة كان رد فعل ولم يكن مُنشىء الفعل ابتداءً.
لكن هل تصلح قاعدة "لكل فعل رد فعل" كمنهج لحياة إنسان أو مجموعة من البشر؟! أقول: قد تصلح ظاهريا.. ربما.. لكن هذا الإنسان أو الأمة أو المجتمع الذي بنى حياته على ردود الأفعال فقط لو تأمل حاله من منظور عين الطائر؛ لأسِف على نفسه أيما أسف حين يفاجأ بتلك الحقيقة الُمرَّة؛ حقيقة أنه لم يعد له أي سلطان على تلك الحياة،
صار مجرد تابع لما تمليه عليه تصرفات الآخرين التي وإن خالفها فهو قد رضخ عمليا لسطوتها وصار رد فعل لها.
إن حياة مبناها على ردود الأفعال، وردود الأقوال، وردود الردود، وردود الردود على الردود؛ هي حياة صاحبها هو آخر من يتحكم في مسارها أو يحدد خياراتها. هي ببساطة حياة يتحكم فيها الآخرون ويوجهونها حيث شاءوا!
لابد أن يعترف بهذا كل من أراد أن يصحح مساره ويترك أثرا ما في حياته؛ لا شك أن رد الفعل ربما يتعين أحيانا ويكون أمرا لا مناص منه بل وربما يعد من تخاذل عنه مخطئا أو مقصرا، لكن الخلل في كون ذلك يتحول تدريجيا إلى الأصل بحيث يصير المرء دوما تحت رحمة خصومه أو مخالفيه يحركونه كيفما شاءوا..
لابد في خضم ردود الأفعال المتعينة من وجود خطوات للأمام أحيانا؛ أن تكون أنت الفعل وأن يكون لك الخيار؛ فذلك هو محل التغيير الأساسي ومناط التأثير الرئيسي.
إن الاستسلام الدائم لما تُمليه الأحداث وتفرضه مجريات الأمور لن يسمح للمرء قط لا بإبداع ولا بتفكير مختلف ولا بخطوات تجديدية مغيرة للأفضل.
لقد قاد رسول الله ما يزيد عن تسع وعشرين غزوة هذا بخلاف ما يقارب السبعين سرية أرسلها على مدار السنوات العشر التي هي فقط مدة العهد المدني. أي أن المجموع كله كما أورده الحافظ ابن حجر يزيد على المائة غزوة وسرية في عشر سنوات وحسب.. يعني تقريبا لا يكاد يمر شهر من حياة المسلمين في المدينة دون حدث جلل!!
هذا بخلاف تآمر المنافقين وتربص اليهود ومشاكل المجتمع الوليد ونوازل الأمة الناشئة، مع ذلك فإنه وفي ظل تلك الحياة الحافلة الحاشدة بالأحداث التي تستلزم ردود أفعال؛ لم يكتف النبي أن تكون حياته وحياة المسلمين مجرد ردود أفعال بل لطالما اتخذ الخطوة الأولى وأمسك بزمام المبادرة ولم ينس في خضم ما هو فيه أن يؤصل لهذه الأمة قواعدا وأصولا وآدابا وفروعا تحيا على أساسها إلى اليوم!
ولن تجد أبدا إنسانا كان له أثر في هذه الدنيا إلا وقد فهم ابتداءً تلك الحقيقة وقرر ألا تأسره قضبان الأحداث أو تقيده أغلال أفعال الآخرين؛ ستجد له بالضرورة خطوات قرر هو أن يخطوها وأن يكون هو الفعل وليس مجرد... رد فعل.