غنيمة الشتاء

منذ 2016-02-08

كيف يمكن لمسلم أن يفرط بهذه الغنيمة الكبيرة التي لا تتاح في غير هذه الأيام من العام، بذريعة برودة الجو أو ما شابه!!

لو لم يكن في فصل الشتاء غنيمة للمؤمن الراغب في نيل القرب من الله تعالى واكتساب المزيد من الثواب والحسنات إلا الالتزام بأداء صلاة الفجر في جماعة لكفى، فقد ورد في الحديث الصحيح أن صلاة الفجر تجتمع فيها ملائكة الليل والنهار، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَفْضُلُ صَلاَةُ الْجَمِيعِ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}» (صحيح البخاري برقم:648)

فكيف إذا كان هناك الكثير من الغنائم الإيمانية والفرص الذهبية أمام المسلم للاستفادة منها في هذا الفصل من العام الذي يطول فيه الليل حتى تتجاوز ساعاته ساعات النهار، فيغدو الاستيقاظ لصلاة ركيعات في جوف الليل (التهجد) ومن ثم أداء صلاة الفجر في جماعة بعد ساعات كافية من النوم أسهل -مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة القيام من الفراش الدافئ إلى الجو البارد-، كما تغدو إمكانية عدم العودة للنوم بعد الصلاة متاحة، الأمر الذي يمنح المسلم الفرصة للتزود بتلاوة القرآن الكريم، وعدم التفريط بهذا الورد اليومي الذي قد يغفل عنه الكثير من المسلمين، أو يضيع منهم غالبًا إن لم يُؤدَ في هذا الوقت، ناهيك عن غنيمة الصوم في النهار في الأيام المسنونة كالإثنين والخميس من كل أسبوع، أو أيام 13 و14 و15 من كل شهر قمري، حيث لا تصل ساعات الصيام في مثل هذه الأيام الــ12 ساعة، مع عدم الشعور بالعطش الذي يجده المسلم في الصيام في فصل الصيف.

تذكرت هذا الغنائم وأنا أنظر إلى موعد آذان الفجر وآذان العشاء، وقد لاحظت الساعات الطويلة بينهما في فصل الشتاء، حيث يغدو أداء صلاة الفجر في جماعة في هذه الأوقات غنيمة متاحة، وفرصة ذهبية لتعويد النفس على الالتزام بها طوال العام، متسائلا: كيف يمكن لمسلم أن يفرط بهذه الغنيمة الكبيرة التي لا تتاح في غير هذه الأيام من العام، بذريعة برودة الجو أو ما شابه!!

وقبل أن أتجاوز هذه النقطة إلى غيرها، أود أن أؤكد للقارئ الكريم أن الله لم يكلف المسلم ما لا يطيق أو ما لا يستطيع، كما لم يكلفه ما فيه مشقة بالغة على نفسه أو ماله، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود نوع من الكلفة والمشقة المعتادة المقدور عليها في بعض العبادات والطاعات كالجهاد والحج والوضوء والصلاة في الجو البارد.

ومن هنا فإن وجود نوع من المشقة والصعوبة في ترك الفراش الدافئ والوضوء بالماء البارد ثم الخروج من المنزل لأداء صلاة الفجر في جماعة لا يرفع صفة الغنيمة السهلة عن أداء هذه الصلاة جماعة في فصل الشتاء، نظرا لاعتبارات أخرى أبرزها طول ساعات الليل مقارنة بفصل الصيف الذي قد لا يكاد يصل فيه الفارق الزمني بين أداء صلاة العشاء وأذان الفجر إلى 6 ساعات كاملة.

قد يقول قائل: إن أداء صلاة الفجر في جماعة في فصل الصيف أسهل نظرًا لانتفاء وجود برد أو حر في ذلك الوقت؟! بينما قد يحول الجو البارد في الشتاء دون أداء المسلم لصلاة الفجر في جماعة.

والحقيقة أن هذا كلام من لا ينام في الليل في فصل الصيف، وإنما يؤجل النوم إلى ما بعد أداء صلاة الفجر جماعة، نظرًا لقصر ساعات الليل بغض النظر عن كيفية قضاء تلك الساعات، هل هو في طاعة الله تعالى أم غير ذلك من المعصية أو اللغو واللهو غير المفيد، وبغض النظر إن كان من يسهر في ليالي الصيف ممن ينتظر حتى يؤدي صلاة الفجر جماعة قبل أن يداهمه النعاس فينام قبل أداء الصلاة أصلا.

ومن المعلوم أن السهر بالليل والنوم بالنهار مخالف للطبيعة البشرية التي فطر الله تعالى عليها الإنسان، فقد جعل الله تعالى الليل لباسًا وسباتًا وزمنًا للنوم والراحة، وجعل النهار للمعاش والسعي في مناكب الأرض والعمل والجهاد، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا . وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا . وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:9-11]، وكل من يخالف هذه الطبيعة والفطرة سيتحمل التبعات على دينه وذاته جسديًا ونفسيًا، ناهيك عن الآثار الاجتماعية المترتبة على العبث بأوقات النوم واليقظة، والتي أثبت الطب الحديث آثارها السيئة على كافة المستويات.

كثيرة هي المحفزات التي ينبغي أن تدفع المسلم في مثل هذا الوقت من فصل الشتاء على الحرص على أداء صلاة الفجر جماعة، وتحويلها إلى التزام دائم لا ينفك عنه طوال العام، لعل أول هذه المحفزات مضاعفة أجر صلاة الجماعة عمومًا عن صلاة الفرد بسبع وعشرين -أو خمس و عشرين- درجة كما ورد في الحديث الصحيح في بداية المقال.

كما أن أداء صلاة الفجر جماعة فيه نوع من البراءة من النفاق، فقد ورد في الحديث الصحيح: «لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» (صحيح البخاري:657).

ويكفي صلاة الفجر جماعة مكانة وفضلا اعتبار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الانشغال عنها وتفويتها بقيام الليل خطأ، قد ورد في موطأ الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح وأن عمر غدا إلى السوق وكان منزل سليمان بين السوق والمسجد فمر عمر على أم سليمان الشفاء فقال: لم أر سليمان في الصبح فقالت: بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح أحب إلي من أن أقوم الليلة (موطأ الإمام مالك برقم:243).

فهل يمكن لمسلم بعد كل ما سبق أن يفوت على نفسه هذه الغنيمة العظيمة؟! التي جعل الله تعالى أداءها والالتزام بها في فصل الشتاء أسهل بعد ساعات طويلة من النوم تكفي للاستيقاظ للقيام وحضور الصلاة التي تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار.

د. عامر الهوشان

  • 1
  • 0
  • 9,832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً