المنتقى من كلام الدكتور محمد أمين المصري - (1) مقدمة
لم يكن الشيخ ممن يُزوقون الكلام ولا يكثرون من التأليف، كان جلُّ اهتمامه تربية المسلم تربية الأحرار، تربية القادة، وكان هذا واضحاً في محاضراته ودروسه وأحاديثه.
من الكتابات أو الآراء التي لا تبلى مع الزمن، ولا يذهب تأثيرها وأهميتها ما سطره أو تحدث به الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله لأن هذه الكتابات كانت نابعة من القلب ومن همًّ متجدد حول مستقبل الأمة، وحول تربية الفرد.
لم يكن الشيخ ممن يُزوقون الكلام ولا يكثرون من التأليف، كان جلُّ اهتمامه تربية المسلم تربية الأحرار، تربية القادة، وكان هذا واضحاً في محاضراته ودروسه وأحاديثه.
إن الدعوة الإسلامية (بعد عشرات السنين) ما تزال بحاجة إلي تجديد في الأساليب وفي مناهج الدعوة، وإلى ثقافة تتيح للفرد الإبداع والإنتاج، وهذا ما كان يقلق الشيخ، وقد عاش فترة خصبة من المد الإسلامي، عاشها مدرساً في الجامعات ومشرفاً على منهاجها، ومشاركاً في الفكر والثقافة، وموجهاً لشباب، وكانت له نظرات تخالف بعض نظرات الآخرين، بل له شخصيته المستقلة في كثير من آرائه التربوية.
لقد كان الشيخ رحمه الله شديد النقد لنفسه ولحاملي لواء الدعوة الإسلامية بأنهم ليسوا على المستوى المطلوب، وأنهم لم يقدموا كل ما عندهم في سبيلها، ولو قدموا لكانوا معذورين، وأما الاعتذار بالواقع وأنه ليس في الإمكان أفضل مما هو موجود هذا الاعتذار كان مرفوضاً عند الشيخ رحمه الله.
والفكرة التي كانت تؤرقه هي: أين الرجال الذين يتحملون المسئولية، الذين بلغوا من الإخلاص والفهم والتضحية والثقافة مبلغاً يرفعوا به هذه الأجيال إلى المستوى المطلوب.
وكان زائروه وتلامذته يلاحظون أن هناك مواضيع كان الشيخ رحمه الله يلح عليها ويكررها ولا يسأم من تكرارها.
ويمكن أن نستخلص من مجموع ما كتب ودرس وحدث بعض ركائز أفكاره.
ركائز أفكار الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله تعالى:
أولاً: موضوع التربية والتركيز على تربية المنزل وتربية الأم بالذات، ويستشهد بصحابيات قدمن أولادهن للمعارك الإسلامية مثل الصحابية الجليلة عفراء، ويقارن بين هذه التربية وتربية الأمهات في هذا العصر والتي من أقصى أمانيها أن يتخرج ابنها موظفاً أو طبيباً، وتصور له الحياة بأنها العيش الرغيد ولا يخطر على بالها أن تربي ابنها على الجهاد.
كما كان يتحدث كثيراً عن تربية المَدرسة وينتقد طرق التربية التقليدية التي لا تزال في مدارسنا وجامعاتنا كنظام الامتحانات الذي يجعل الهدف من التعليم هو النجاح والشهادة بدل أن يجعل الهدف هو حب العلم.
ثم ينتقل الشيخ إلى تربية الشباب سواء في المدرسة أو المسجد أو المجتمع، ويؤكد هنا على ضرورة تربيتهم تربية القادة لا تربية العبيد، تربية الاستقلال لا تربية الخضوع والخنوع والمريدين بكل ما في الكلمة من معنى، فإن البعض يعجبه أن يتعلق به الأتباع تعلقاً أعمى، ويحلو لهم مغالاة الأتباع في تعظيمهم ويغلب على هؤلاء الأتباع نسيان الفكرة ويصبح التعلق بالشخص ولو انحرف عن الفكرة.
بينما التربية التي يريدها هي التربية القرآنية كما ربى رسول الله صلي الله عليه وسلم أصحابه فكان لا يمتاز عنهم بشيء من ملبس أو مظهر أو مكان، وكان يكره أن يقوم له أصحابه وكان يستشيرهم في كل مناسبة وعمل برأي الحباب بن المنذر في بدر، وسلمان الفارسي في الخندق ويقول لهم: «البخاري).
» (رواهثانياً الجهاد:
الجهاد الذي تركه المسلمون وحوّره وبَدّله المتعالمون المنهزمون، أمام ضغط الواقع وضغط الاستشراق الخبيث، وللشيخ هنا كلمة مأثورة وهي: "إن الطفل في الأسرة المسلمة يجب أن ينام على أحاديث الجهاد ويستيقظ عليها".
وذلك كان الذين لا يعرفون الشيخ رحمه الله يظنون أنه لا يتقن غير تفسير سورة الأنفال، وإنما كان يكررها لتأكيد هذا المعنى، كما كان رحمه الله يكثر من تفسير سور: آل عمران والتوبة والأحزاب لتضمنها صور المعارك الكبرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وللشيخ أبحاث قيمة في مثل هذا الموضوع مثل بحثه حول الحديث الضعيف أو الذي لا أصل له "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" [1] وكيف أثر هذا الحديث وأمثاله علي نفسية المسلمين.
ثالثاً:الأخطار الداخلية:
هناك أمراض أصيب بها المسلمون، هي أمراض نفسية وعقلية تنخر في كيانهم وتسبب لهم ضعف، هذه الأمراض هي الخطر الداخلي.
إن أكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه وأن يلقي التبعة دائماً على غيره، ويعلق أخطاءه على مشجب الآخرين، وهذا يريحه من تأنيب الضمير وعَتب العاتبين.
ومن أكبر المصائب أن نبرر أخطاءنا ولا نعترف بعجزنا، ونلجأ إلى خداع النفس لكي تتهرب من الواقع.
ومن المصائب أننا لا نبحث أمورنا بشكل جدي بل نبحثها على مستوى السمر والتسلية وهو مرض "استسهال الأمور".
يقول الشيخ رحمه الله تعالى في أحد بحوثه: "اليأس القتِّال والخوَر المميت والثقة المفقودة كل هذه هي العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين، أما العدو الخارجي فأمره يهون إذا استطعنا أن نغير ما بأنفسنا".
هذا الموضوع كان يستأثر باهتمام الشيخ، لأنه يعتبر الأخطار الداخلية هي السبب الرئيسي لما حصل للمسلمين على مر العصور من تخلف.
وأَعتقد هنا أنه في هذا الموضوع قد استفاد من كتابات المفكر الجزائري "مالك بن نبي" في سلسلة كتبه (مشكلات الحضارة) والتي تكلم فيها عن دور الحضارة عند المسلمين.
رابعاً: كما كان الشيخ رحمه الله تعالي ينعي كثيراً علي المسلمين الفهم غير الصحيح لبعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن الكريم، بحيث إنهم يجعلون من هذه الأحاديث تكأة لعجزهم وضعفهم فيوردون أحاديث الفتن، وأن الأمر ليس له مرد، وأن كل زمان أسوأ من الذي قبله ولذلك فلا داعي للعمل والتبليغ، هذا فضلاً عن احتجاجهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي توهن العزائم وتبرر القعود.
خامساً: لابد من "قلة تنقذ الموقف"، قلة هي النخبة التي تستطيع حمل الأمانة، وحمل الأمانة بنفسه يفجّر الطاقات.
هذه النخبة يصفها في أكثر بحوثه، يقول في رسالة (المعاني الدخيلة علي التربية الإسلامية): "فالأمة التي يفقد أبناؤها حمل الرسالة تفقد معاني الجهاد وتفقد قيمة الحياة، وحين لا يكون للأفراد رسالة يشغل الخواء القلب، وتمتد الشهوات وتستعلي الغرائز".
ويقول أيضاً من بحث حول تربية القادة: "إن حمل الرسالة يعطي الفرد قوة ما كان ليحلم بمثلها في الحالات العادية، والشعب في حال حمل الرسالة يستمر في النهوض، فإذا فترت هذه الروح كان سيره بقوة الدَفعة الأولي إلي حين".
هذه بعض الأفكار التي كان الشيخ يهتم بها، ويكفي أنها ناصعة صحيحة ولا يزال المسلمون بحاجة إلى سماعها وفهمها.
- من جهود الشيخ رحمه الله أنه في عام 1965م سافر إلى المملكة العربية السعودية للتدريس في جامعة الملك عبد العزيز -كلية الشريعة- في مكة المكرمة وقد شارك في تأسيس قسم الدراسات العليا فيها، وقبل وفاته بثلاث سنوات انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة رئيساً للدراسات العليا فيها، وكان له رحمه الله تعالى دور في وضع مناهجها.
وفاته:
توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان 1397هـ الموافق 1977م على إثر عملية جراحية له في أحد مستشفيات سويسرا ونقل جثمانه إلى مكة المكرمة ودفن هناك، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجزاه الله خيراً.
[1] قال عنه شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "لا أصل له"، ونقل كلام ابن حجر عنه قال: "هو من كلام إبراهيم بن عبلة".
- التصنيف:
- المصدر: