إذا قرح القلب - [08] فبما رحمة من الله لنت لهم

منذ 2016-02-11

فمن ألين من الحبيب فؤادا، وأملك لشغاف القلوب ودادًا؟

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

سبق منا الإشارة إلى كيفية تعبيره عليه السلام، بجميل أفعال كرام، وبصريح من أطايب الكلام، لما يُكِّن من رائق مشاعره لأمه وزوجه وذريته عليهم جميعا من الله السلام، قد سنّ بذلك لأتباعه إلى يوم القيامة سنة، فليقتدِ بسيرته - لزامًا- كل من أراد الجنة، فلله كل الحمد على رحمته بخلق والمنة.

قلنا: ليست المحبة محض تعبير بألفاظ وكلمات، ولكنها مواقف تُعاش تُعاين فيها مشاعر حسان رائقات، يتبادل فيها الخلق فيما بينهم فيض من الرحمات. أما الآن: (4) كيف جعل بحسن خلقه قلوب أصحابه تهوي إليه، تطوف نفوسهم وقلوبهم برائق وداد وفائض حب تغدقه عليه، فملك بجميل رحمته عليهم من النفوس جماعها، وتعمق بكريم عشرته لهم حتي مسّ من القلوب شغافها. وهاكم باقة ضيّاعة من أطايب صحيح الأحاديث، تفيض بأعطر ذكرى لخلق عالٍ رائق نفيس.

أولاً: بأبي أنت وأمي يامثل النقاء، أسمى خلق الله سريرة وصفاء:
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة فتثبت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا، وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا قال: فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال: دعنا منك فقد أوذي موسى بأكثر من ذلك ثم صبر» حسّنه الشيخ: أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد [5/286].

 ثانيًا: مؤدب بلا تحريج:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»صححه الوادعي في: الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين [1612].

ثالثًا: معلم يتلطف في تعليمه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة» حسنه الوادعي في: الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين [1341].

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يا معاذ، قلت: لبيك، قال: إني أحبك، قلت: وأنا والله، قال: ألا أعلمك كلمات تقولها فى دبر كل صلاتك قلت: نعم، قال: قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك» (صحيح الأدب المفرد [533]). 

رابعًا: مداعب متقرِّب لطيف
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا، وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون. فقالوا: يا رسول الله نرمي وأنت معهم، قال: ارموا وأنا معكم كلكم» (صحيح البخاري [3373]).

خامسًا: معبر عن حبّه برائق قاله وجميل فعاله:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي نفسي بيده، إنكم أحب الناس إلي. مرتين.» (صحيح البخاري [3786]).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: «ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» (صحيح البخاري [3799]).

سادسًا: وعلى أولاد أصحابه الكرام يعطف، يداعبهم يتودد إليهم برقة يتلطف:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم .فأتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله» (صحيح مسلم [286]).

عن أم خالد أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلى قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنه سنه. قال عبد الله: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي. قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر، يعني من بقائها (صحيح البخاري [5993]).

عن محمود بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه قال: «عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو» (صحيح البخاري [77]).

عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه . فاستقبله ولدان . فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار» (صحيح مسلم [2329]).

سابعًا : يشارك بفيض حنانه أيتامهم فيبكي لبكائهم يشاطرهم أحزانهم يواسيهم في مصابهم:
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لما قتل زيد بن حارثة، أبطأ أسامة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يأته. ثم جاءه بعد ذلك، فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدمعت عيناه. فبكى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما نزفت عبرته قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم أبطأت عنا ثم جئت تحزننا؟ قال: فلما كان الغد جاءه. فلما رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقبلاً قال: إني للاق منك اليوم، ما لقيت منك أمس فلما دنا دمعت عينه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم» (صححه الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين [842]). فمن ألين من الحبيب فؤادا، وأملك لشغاف القلوب ودادًا؟

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب. فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن فقال: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولم تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجا غير فجك» (صحيح البخاري [6085]).

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا*** منها وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل*** يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى*** وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذاعفوت فقادرا ومقدرا *** لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا خطبت فللمنابر هزة *** تعرو الندىوللقلوب بكاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء

ولما ينتهي سِمط الكلام، عن نبينا وصحبه الغرّ الكرام، يُتبع.

أم هانئ

  • 0
  • 0
  • 3,048
المقال السابق
[07] ليس منا من لم يرحم صغيرنا
المقال التالي
[09] ربَّاك ربُّك جل من ربَّاك

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً