التعليق على كتاب (الكتاب في الحضارة الإسلامية)(3)
تأليف د. يحيى وهيب الجبوري..
الحلقة الثالثة...
الفصل الثاني: التدوين والتأليف
تحدث المؤلف في هذا الفصل عن تعريف الكتابة والتدوين، وتحدث عن نشأتها في تاريخ العرب وأنها قد عرفت في العصر الجاهلي على نطاق ضيق، حيث غلبت الرواية الشفهية على نقل الأشعار والأخبار، ولكن هناك ما يعزز كتابة الشعر مع روايته رواية شفوية.
وأشار المؤلف لظهور الكتابة في الحواضر والمدن مثل الحيرة والشام ومكة ويثرب واليمن خاصة، حيث كانت الحضارة مستقرة، وقد تمثلت الكتابات في النقوش المعينية والسبئية والحميرية، ومن غير المتوقع أن نجد كتابا بمعنى الكتاب المكون من عدة صحف في الجاهلية، ولكن الكتب الأولى التي وصلت أو ذكرها المؤرخون كانت من القرن الأول الهجري، ومن علماء يمتون إلى الحضارة اليمنية والأصل اليمني .
من ذلك كتاب عن تاريخ الحميريين يحتوي على أسماء الملوك القدماء، وبعض القصص والأخبار والوقائع التي حدثت في الجاهلية، وهو كتاب (أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها) لعبيد بن شرية من صنعاء المتوفى سنة 70هـ.
وأشار المؤلف إلى أن التدوين والكتابة وانتشارها ارتبط بتيسير الرقوق والقراطيس والورق من بعد ذلك، وكانت الصحف قد انتشرت منذ الصدر الأول، وصار لها أسواق ومتاجر، ومن يقومون بالنسخ وتكثير الكتب، وقد عرف هؤلاء بالوراقين، وقد عرف بالوراقة والتدوين في عهد الصحابة، وكانوا يكتبون الكتب الدينية مثل التوراة والإنجيل ومجلة لقمان وكتاب دانيال.
وقد كثرت الكتب في عهد عمر بن الخطاب وخشي أن تشغل الناس عن قراءة القرآن الكريم، فخطب قائلاً: "أيها الناس إنه بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلا أتاني به فأرى فيه رأيي". فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار [تقييد العلم للبغدادي ص 53].
وفي منتصف القرن الأول للهجرة كثرت الكتب وصارت تباع في الأسواق، ومن دلائل ذلك ما روي من أن همام بن منبه كان يشتري الكتب لأخيه وهب بن منبه (110هـ) ومعروف أن وهب بن منبه كان واسع الاطلاع قد قرأ كثيراً من الكتب.
ومما يعزز كثرة الكتب وانتشارها أن بعض العرب في العصر الأموي قد أنشأ مكتبة عامة يؤمها الناس فيقرأون فيها، فقد ذكر أن عبدالحكيم بن عمرو بن عبدالله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتاً فجعل فيه شطرنجات ونردات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل على الجدار أوتاداً فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفتراً فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم. [الأغاني 4/253].
وقد تعرض المؤلف بعد ذلك إلى بداية التأليف في بعض العلوم فذكر منها:
التأليف في علم الأنساب:
لقد برع عرب الشمال بالأنساب، واهتموا بها اهتماماً كبيراً، حتى إن الجاحظ قد أحصى ممن ألف في الأنساب قبله أربعة عشر رجلاً، وقد عاش أكثرهم في الجاهلية أو عند ظهور الإسلام، ومنهم سطيح الذئبي ت 52هـ وقد عرف بعراف العرب وحكيمهم، ودغفل بن حنظلة السدوسي وغيره. وكانت عناية العرب بالأنساب كبيرة في الجاهلية وبعدها، وكانت هذه المدونات في الأنساب هي المادة التي رجع إليها العلماء المؤلفون في التاريخ والتراجم والأنساب بعد ذلك؛ ولم تقتصر تلك المؤلفات على الأنساب فحسب بل اشتملت على تاريخ العرب وغيرها، وقد ضاع معظم تلك الكتب المتقدمة ولم يبق منها إلا القليل.
التأليف في المغازي والسير والتاريخ:
كانت الأخبار والقصص والأساطير الجاهلية تروى شفاهاً، ولم يكن هناك تدوين تاريخي في ذلك العصر، وحتى الدول المجاورة كالمناذرة والغساسنة لم تخلف مدونات تأريخية، وإذا استثنينا الكتابات والنقوش التي كانت في اليمن والشام؛ فلا نجد شيئا وصل من العصر الجاهلي.
وأول تفكير في الحوادث التاريخية بدأ في الإسلام، وقد رافق تفسير القرآن الكريم فقد شعر المسلمون بحاجتهم إلى معرفة مناسبة النزول والحوادث التي تشير إليها الآيات، وفي القرآن إشارات إلى الأمم والأنبياء، وقصص الأمم البائدة، فرغب المسلمون في معرفة هذه الإشارات وتوضيحها، فاستعانوا ببعض علماء اليهود والنصارى فصار هؤلاء يحدثونهم عن قصص التوراة والإنجيل وشروحهما، فربطها المسلمون بالتفسير والتاريخ، وعرفت هذه الأخبار باسم (الإسرائيليات) وقد أكثر من هذه الأخبار كعب الأحبار المتوفى سنة 34هـ، ووهب بن منبه ت 110هـ، وتركا آثارهما في كتب التاريخ والتفسير التي ألفت فيما بعد، وطال الجدل حول هذه الإسرائيليات حتى اليوم، ولا سيما توظيفها في تفسير القرآن الكريم.
كما تتبع المؤلفون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأخباره فصارت أساساً لكتب المغازي والسيرة النبوية وكثرت كثرة بالغة بعد ذلك.
تدوين القرآن الكريم والسنة النبوية وتفسيرها:
أول كتاب جمع في الإسلام هو القرآن الكريم، وقد كتب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما يسر حفظه وكتابته أنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً ومفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، وكانوا يحفظون ما ينزل منه ثم يكتبونه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصلاً قامت على جنباته ولخدمته كل العلوم الإسلامية بعد ذلك. وقد تحدث المؤلف عن كتاب الوحي وعددهم وطريقة كتابتهم للقرآن وأورد الروايات في ذلك.
كما ازدهرت حركة تفسير القرآن والكتابة فيه، ومثل ذلك الحديث النبوي وشروحه، وتنافس العلماء في تدوين هذه العلوم. وقد تناول المؤلف في ختام هذا الفصل مراحل كتابة الحديث النبوي وتصنيفه وعدد العلماء الذين عنوا بهذا العلم الشريف.
الفصل الثالث: الوراقة والوراقون
خصص المؤلف هذا الفصل للكلام عن الوراقة وأصحابها ، حيث كان لازدهار حركة التأليف في العصر العباسي وشيوع الترجمة اليونانية والفارسية، أن نشأت مهنة اشتق اسمها من اسم الورق الذي عرف في سمرقند وصنع من ثم في بغداد وبعض الحواضر الإسلامية، فعرفت هذه المهنة باسم (الوراقة) وعرف متعاطوها باسم (الوراقين).
والوراقة هي كما عرفها ابن خلدون: "معاناة الكتب بالانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتُبيَّة والدواوين".
وكان هؤلاء الوراقون يقومون بما تقوم به دور النشر اليوم من الطبع والتوزيع وبيع الورق وأدوات الكتابة على اختلافها. وقد ازدهرت الوراقة في المدن الكبرى، وبلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانت سببا من أسباب ازدهار حركة التأليف والترجمة، وأضحت صورة مشرقة زاهية من صور الحضارة العباسية في أوج عزها، وقد مثلت الوراقة كل أنواع النشاط العقلي في العلوم العربية والإسلامية والعلوم المنقولة عن الأمم الأخرى.
المؤلفات في الوراقة:
ذكر المؤلف بعض من صنف في الوراقة، فذكر رسالتين للجاحظ الأولى في مدح الورَّاق، والثانية في ذم الورَّاقين ! ثم ذكر رسالة أبي زيد البلخي (ت 322هـ) في مدح الوراقة. وذكر كتاب (تنويق النطاقة في علم الوراقة) لعبدالرحمن بن مسك السخاوي (ت 1025هـ).
ومن الكتب التي لم يشر إليها المؤلف كتاب معاصر للدكتور محمد المنوني المغربي عن تاريخ الوراقة والوراقين في المغرب وهو كتاب قيم جدا، وفيه نفائس وأخبار طريفة.
بداية الوراقة:
تناول المؤلف تاريخ بدء الوراقة عند المسلمين، فذكر أن أول بدء الوراقة كان من أجل نسخ المصاحف، ثم دخلت بقية علوم الشريعة والعربية بعد ذلك، وذكر أسماء من تفرغوا لنسخ المصاحف وأجاد في ذلك، ونقل نقولا نفيسة في هذا الموضوع، وهو جدير النقل كاملا هنا لولا ضيق الوقت.
وتناول أخبار المشتغلين بتجليد الكتب وتذهيبها وغير ذلك. ثم تحدث عن الخطوط المستعملة في الوراقة وتاريخ انتشارها في الحواضر الإسلامية، وأبرز الخطاطين والنساخ، وأشار إلى أن مجالس الإملاء كانت من أسباب ازدهار الوراقة، حيث كان الوراقون ينسخون مباشرة الكتب من مجالس الإملاء. وذكر في ذلك أخباراً في غاية الطرافة والعجب، تثير الدهشة والإعجاب مما بلغته العناية بالعلم والاستملاء من العلماء حتى في الطرقات والبيوت والأسواق.
وأشار المؤلف إلى أن الوراقة كانت مهنة مريحة امتهنها عدد من العلماء، وكانت أسعار النسخ تتفاوت بمرور الزمن، وكان الوراق المتقن الجيد الخط الصحيح النقل مقصد أنظار العلماء وطلاب العلم، وكان هؤلاء الوراقون المتقنون ربما قصدوا العلماء لعرض الكتب عليهم ونسخها لهم وفق أجر معلوم.
وبعض العلماء كان يسمي حرفة الوراقة حرفة الشؤم كأبي حيان التوحيدي وغيره، ولعل التوحيدي كان أكثر الكتاب تشاؤماً من هذه الحرفة لأنه كان يرى قدره فوق أن يكون متفرغا لهذه المهنة.
وقد تناول المؤلف بالحديث أجور النسخ وتفاوتها، وذكر مقدار ما يكتبه النساخ في اليوم الواحد، وفي المجلس الواحد.
ثم تناول أماكن وأسواق الوراقين، وبعض أخبار الوراقين، وأشعار الوراقين وغير ذلك من طرائف أخبار الوراقين وصناعتهم الرائجة الرائعة، التي قامت بنقل هذا التراث العلمي الضخم من السلف للخلف، ولولا هذه المهنة وأهلها لضاع كثير من العلم والكتب التي نستظل اليوم بظلالها، ونحن مدينون لمؤلفيها وناسخيها بالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول هذه العلوم إلينا. والفصل فصل حافل جدير بالقراءة كله، ولولا ضيق الوقت لنقلته برمته فهو فصل ممتع.
_________________
د.عبدالرحمن الشهري
- التصنيف: