المصادر الأساسية لعقيدتنا الإسلامية!
إن منهج السلف في تقرير مسائل الدّين والعقيدة، يتركَّز حول مصادر ثلاثة رئيسية، وهي: الكتاب والسُّنة والإجماع.
والكتاب والسنة قد وفَّيا وكفَّيا، بما يسدّ فاقة الناس وحاجتهم، في كل شيء خاصة العقيدة، كما قال ابن تيمية رحمه الله، في الفتاوى: "فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم؛ فقد بيَّنه الله ورسوله بيانًا شافيًا، فكيف بأصول التوحيد والإيمان ؟!".
ثم الإجماعُ وإعمال العَقل بعد ذلك؛ تابعان لنصوص الوحيَين، وبهذه جميعًا لا يَبقى قولٌ لقائل، كما قال الدَّارمي رحمه الله، في الرَّد على الجهمية: "فإذا اجتمع الكتابُ، وقولُ الرسول، وإجماعُ الأمة؛ لم يَبق لمُتأوِّل عندها تأوُّل، إلا لمكابرٍ أو جاحد". وهاكم تفصيل المصادر الثلاثة:
** المصدر الأول: القرآن الكريم
فهو الأصل في التلقِّي، واستنباط وتقرير الأحكام الشرعية عامة، ومسائل الاعتقاد خاصة، وإليه يُرَد كلّ نزاع، فما وافقَه كان حقًّا، وما خالفَه كان باطلًا.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89].
وقال تعالى: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
فالقرآن هو الحُجَّة الدامغة، والمَحجَّة الناصعة، في بيان الخير والحقّ، في أمور الدّين والدنيا. وقد تنوَّعت طرائق القرآن في تقرير العقيدة، طرائق شتَّى.
** المصدر الثاني: السنَّة النبويَّة
وهي من الوَحي، كما قال تعالى عن نَبيِّه عليه السلام: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ؛ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النجم:3-4]. وقد ثبَت عند أبي داود وغيره، من قوله عليه السلام: "ألا إني أُوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه".
فالسُّنة الصحيحة الثابتةُ عن رسولنا عليه السلام، هي حُجَّة بنفسها، مُتعبَّدٌ بتشريعها، خاصةً في العقيدة وأحكامها، إذ إنها في ذلك كالقرآن.
قال قوّام السُّنة أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله، في كتاب الحُجَّة: "ومَن قبِل عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنما يَقبل عن الله، ومن ردَّ عليه فإنما يردّه على الله. قال الله تبارك وتعالى: {مَن يُطِع الرسولَ فقَد أطاعَ الله} [النساء:80] ". وعلى ذلك فلا يَجوز ردّها أو مُعارضتها، بقول كائنٍ مَن كان.
قال قوّام السُّنة أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله، في كتاب الحُجَّة: "وليس لنا مع سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأمر شيء، إلا الاتباع والتسليم، ولا يُعرَض على قياس ولا غيره، وكل ما سواها من قول الآدميين تبَع لها، ولا عذر لأحد يتعمَّد تَرك السنة، ويذهب إلى غيرها، لأنه لا حُجة لقول أحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صحَّ".
والمقصود بالسُّنة هاهنا: هو الصحيح الثابت من أخبارها، دون الضعيف من الأخبار والموضوع المَكذوب، فلا حُجَّة فيه، ولا يُعوَّل عليه، في العقائد والأحكام.
قال ابن قُدامة رحمه الله، في كتابه ذمّ التأويل: "ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة، التي ثبتت بها صفات الله تعالى: هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات، التي قَبِلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها، وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة، ليُلبِّسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها؛ لا يجوز أن يُقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعَدمها".
ويستوي في حُجيَّة السُّنة الصحيحة، المُتواتر منها والآحاد.
وخبَر الآحاد، هو الذي لم يَجمع شروط المتواتر، والمتواتر هو: ما رواه عددٌ كثير تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون مُستندهم الحِسّ كالمشاهدَة والسَّماع وغير ذلك.
فخَبر الآحاد متَى ثبتَ؛ فهو حُجَّة كالمتواتر بالاتفاق. قال ابن عبد البرّ رحمه الله، في التمهيد: "وكلُّهم يَدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويُعادي ويُوالي عليها، ويجعلها شرعًا ودينًا في مُعتقده. على ذلك جماعةُ أهل السُّنة".
** المصدر الثالث: الإجماع
وهو مما يُميِّز أهل السنة، إذ إن كثيرًا من أهل البِدع، كالرافضة والخوارج وكثير من المُعتزلة؛ لا يحتجّون بالإجماع، ولا يَستندون إليه، بل يُنكرونه جُملةً.
والمراد به ها هنا: ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم، من أصول الاعتقاد والإيمان، وتلقَّاه التَّابعون وأتباعُهم، وصار مُتقرِّرًا مُشتهِرًا، بين هذه القرون المُفضَّلة.
ثمّ يَليه: ما أجمع عليه أهلُ السنَّة، عبر كلّ عصر، لمُناسبة حصول بعض البِدع العقديَّة، التي لم تَكن، كالقول بخَلق القرآن مثلًا، فيَتفقون على نَقضها وهَدمها، ويُقرّرون وجوه الحقّ فيها، ويكون أصل هذه الاتفاقات؛ مفهومًا ضِمنًا واستقراءً من اعتقاد الصحابة وأتباعهم.
وهذا الإجماع مُستَنِدٌ على نصوص الوَحيين، لا مُستقلٌّ عنهما، وهو في المقام الأوّل مُنعقِدٌ على أصول الاعتقاد، وأمّهات مسائِله، دون غيرها. ومُنعَقد كذلك على الأخبار، ولو كانت آحادًا، وكذا لو كانت اجتهادًا وقياسًا –عند جمهور أهل السُّنة-.
وهو حُجَّة شرعيَّة عند جماهير أهل السنة، مُستدلِّين بقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:115].
فتوعَّد سبحانه كلَّ من خالَف سبيل المؤمنين -وهو ما كان عليه الصحابة ومَن تَبعهم- بالوعيد الشديد وقرن ذلك بمشاقّة الرسول، ولا يكون هذا إلا على ترك واجب، وفِعل مُحرَّم. وقد استدلَّ الشافعيُّ رحمه الله، بهذه الآية على حُجيَّة الإجماع.
فهذه المصادر الثلاثة، هي الأساس والقاعدة الرئيسة المُقدّمة، في تلقِّي العقيدة، ومسائل الإيمان، عند أهل السنَّة دون غيرهم.
لذا .. فقد قادَهم التوحُّد والاتفاق على ذلك، إلى لُزوم الحقّ وسبيلِه، ومُجانبة الباطل ودُروبه، وجَمع كلمتهم، دون اختلافٍ أو افتراق.
قال قوّام السُّنة في كتاب الحُجَّة: "ومما يدلّ على أن أهل الحديث هم على الحقّ؛ أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنَّفة من أوَّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم ... وجدتَّهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدة ... لا ترى بينهم اختلافًا ولا تفرقًا، في شيءٍ ما وإن قلّ، بل لو جمعتَ جميع ما جَرى على ألسنتهم، ونَقلوه عن سلفهم؛ وجدتَه كأنه جاء من قلبٍ واحد، وجَرى على لسانٍ واحد، وهل على الحقّ دليلٌ أبيَن من هذا ؟!".
وأما منزلة العقل من ذلك، وهل يُعتبَر مصدرًا مُستقلًّا، في مسائل الاعتقاد، أم أنه مُوافِق للمصادر المذكورة، دالٌّ عليها؛ فتابعوا منشورنا القادم بإذن الله، ضمن هذه السلسلة.