المنتقى من كلام الدكتور محمد أمين المصري - (9) تربية المسؤولية

منذ 2016-02-19

حرص محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه إنما هو بشر يرضى كما يرضى البشر، ويغضب كما يغضب البشر، ويخطئ ويصيب في الأمور الدنيوية كما يخطئ البشر ويصيبون مع عصمة الله له فيما يبلغه عن ربه، كل ذلك كي لا يغالي أصحابه في تعظيمه فيرفعوه فوق مرتبة البشرية كما فعل أتباع الأنبياء السابقين، كان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه فيقول لهم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» (رواه البخاري).

قال الله عزوجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].

حرص محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه إنما هو بشر يرضى كما يرضى البشر، ويغضب كما يغضب البشر، ويخطئ ويصيب في الأمور الدنيوية كما يخطئ البشر ويصيبون مع عصمة الله له فيما يبلغه عن ربه، كل ذلك كي لا يغالي أصحابه في تعظيمه فيرفعوه فوق مرتبة البشرية كما فعل أتباع الأنبياء السابقين، كان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه فيقول لهم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» (رواه البخاري).

وفي سبيل هذه التربية لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأمر دون استشارة أصحابه، ففي بدر يقف صلى الله عليه وسلم حينما أتاه خبر مسيرة قريش إلى المسلمين فيستشير من معه من أصحابه فيتكلم أبو بكر وعمر ثم المقداد كلاماً حسناً فلا يكتفي، ولكنه يظل ينظر إلى القوم ويقول لهم: أ «شيروا علي أيها الناس» حتى يقوم سعد بن معاذ، ويقول مقالته الطيبة، فيقول عند ذلك صلى الله عليه وسلم: «سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم».

والرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويدع رأيه لرأيهم، ففي بدر أيضاً يتكلم الحباب ابن المنذر بشأن المكان الذي ينزلون فيه، فينهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحول إلى المكان الذي يسير به الحباب رضي الله عنه.

ويقترح سعد بناء العريش فيوافق عليه الصلاة والسلام، وفي غزوة أحد يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاة العدو أو البقاء في المدينة، وكان رأي كثير من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف القتال في بدر الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة، ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله حتى وافقهم عليه ثم ندموا وقالوا: "استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد"، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته -أي درعه- أي يضعها حتى يقاتل».

وفي غزوة الخندق قبل رسول الله مشورة سلمان بحفر الخندق وكان صلى الله عليه وسلم يعمل إلى جانب العاملين.
روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: "لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب بطنه وكان كثير الشعر".

وفي هذه الغزوة أرسل رسول الله إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة كي ينصرفوا عن قتال المسلمين فقال له: "يا رسول الله، أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك به الله، أم شيء تصنعه لنا؟"، قال صلى الله عليه وسلم: «بل شيء أصنعه لكم كي أكسر عنكم شوكتهم»،وحينئذ قال له سعد بن معاذ: "والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: «فأنت وذاك».

في كل هذه الأمثلة ترى تربية رسول الله لأصحابه واعترافه صلى الله عليه وسلم برأيهم ورضاه بصراحتهم وجرأتهم في الحق وهذه التربية تنتج قادة يحملون التبعات، لا أتباعاً يسيرون وراء كل ناعق.

ومن أمثلة هذه المواقف موقف الصحابي أبي حذيفة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: «من لقى منكم العباس بن عبد المطلب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- فلا يقتله فإنما خرج مستكرهاً»، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: "أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف".

إنه لموقف يتجلى فيه الصدق والصراحة والجرأة -وقد بلغت كل هذه غايتها- وما كان الأصحاب ليقفوا مثل هذه المواقف لولا ما عهدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن استقباله للقول الذي يدفع به صاحبه، ما يدفعه إلا الصدق والإخلاص في القول، لقد استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة بحلمه وعفوه، وتدخل عمر رضي الله عنه بحدته وبطشه وخفف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدته، وعاد صاحب الكلمة حذيفة نادماً حزيناً وظل يقول حتى استشهد: "والله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن يكفرها الله عزوجل بالشهادة".

هكذا كانت تربية محمد صلى الله عليه وسلم تربية لروح النقد والصراحة بالحق والجهر به تربية تهدف إلى إنشاء قادة يستطيعون أن يضطلعوا بأعباء القيادة حين تغيب القيادة، وهذه التربية هي القدوة الصحيحة الكاملة للتربية الإسلامية، وكل تربية تبعد عن سبيل هذه التربية تعتبر تربية منحرفة بمقدار ابتعادها.

وفي هذه التربية يشعر كل فرد بأنه مسؤول عن الدعوة الإسلامية حتى ولو كان وحده، وكل فرد مسؤول عن وظيفته الخاصة في الجماعة كما هو مسؤول عن سير الجماعة كلها، ولأدنى فرد في هذه الجماعة أن يقف أمام خليفة المسلمين ليدلي برأيه وليعارض أي رأي أو قول أو فعل يجد فيه خطأ.

المصدر: كتاب سبيل الدعوة الإسلامية بتصرف محمد المصري

محمد أمين المصري

عالم، محدث، مرب. (1333 – 1397 هـ 1914 – 1977 م) كان للشيخ بحوث مهمة في التربية

  • 3
  • 0
  • 1,942
المقال السابق
(8) المسؤولية
المقال التالي
(10) لماذا المسلمون خير أمة؟!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً