مقدمة فى قضية الحكم بغير ما أنزل الله

منذ 2010-01-08

قال أبو البحتري في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً}، قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرام الله حلاله.

قال أبو البحتري في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً}، قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرام الله حلاله.

كيف اتخذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهم لم يصلوا لهم ولم يصوموا لهم؟!
الجواب: اتخذوهم مشرعين لهم من دون الله حيث أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم لهم وذلك هو اتخاذهم أرباباً من دون الله.
قال ابن القيم: "قال أبو البحتري في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} [سورة التوبة: 31]، قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرام الله حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.

قال ابن عثيمين: "الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة: 31]، فسمى الله تعالى المتبوعين أرباباً حيث جعلهم مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتّبعين عبادا؛ حيث أنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى. وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لسنا نعبدهم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه فتلك عبادتهم» [ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة علة الحديث هي جهالة غطيف بن أعين] (كتاب التفسير سورة النور 5/362).
وعامة التفاسير يقولون بهذا التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعبدوهم بصلاة أو بصيام أو بما شابه، إنها الطاعة للمشرّعين من دون شرع الله رب العالمين، إنها الكفر المستبين والشرك الأكبر اللعين، إنها طاعة للشيطان وهى عبادته. ولقد نص القرآن على ذلك كثيرا ومن أصْرَحِه قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام: 121].

قال الشنقيطي في (أضواء البيان) في تعليقه على هذه الآية: "فصرح أنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [سورة يس: 60-61]، وقوله تعالى عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [سورة مريم: 44]، وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيدا} [سورة النساء: 117]، أي ما يعبدون إلا شيطانا، أي وذلك باتباع تشريعه إلى أن قال: "ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بيّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب وذلك في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء: 60]، وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم إلى أن قال: "فتحكيم هذا النوع من النظام (يريد التشريع) المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض وتمرُّد على نظامه (الأضواء بتصرف واختصار).
قلت: إن مؤمن الأمة أبا بكر رضي الله عنه هو أعظمها إيمانا وأعمالا، لو أطاع شياطين الجن والإنس في تحليل لحم الشاة الميتة غير المذكاة بحجة أنها ذبيحة الله وقتلته، وأنها إلى من ذبيحتهم وقتلتهم، لو أطاعهم -وحاشاه- لصار مشركا مخلدا في النار، وأكد الله ذلك بمؤكدين: (إن، واللام) إنكم لمشركون. بل النبي صلى الله عليه وسلم هو أول مخاطب بذلك الخطاب، فالأمر إذًا جلل وخطير، إنه كفر برب العالمين، إننا نعيش الآن أزمان إهدار الشريعة جملة وتفصيلا، والناس بين غفلة وجهل وإعراض وأحيانا سوء قصد. الشريعة مهدرة والناس بالملايين في العالم الإسلامي يتحاكمون إلى القوانين الوضعية ويظنون أنهم لم يرتكبوا كفرا ولا شركا بل يحسبون أنهم مهتدون.
يقول بعضهم: نحن نؤمن بالرب الخالق الرازق المحي المميت ونصلي له ونسجد ونصوم ونزكي ونحج فما علاقة التشريع بالربوبية؟!، أقول: هنا يلزم أن نبين الجوانب الثلاث للربوبية كما فصلها القرآن تفصيلا.
جوانب الربوبية: الجانب القدري الكوني -الجانب التشريعي- الجانب الجزائي. وردت لفظة الرب (مفرد ومضاف) في القرآن حوالي 965 مرة، موزعة سياقاتها على الجوانب الثلاث:
أولا: الجانب القدري الكوني:
القدري لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر: 49]، والكوني لقوله تعالى: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل: 40]، وهو الخلق وتدبير أمر المخلوقات كخلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق الملائكة والجن والإنس والطير والحشرات والأنعام والدواب والرياح والسحاب المسخر والنبات والشمس والقمر والنجوم والمجرات والليل والنهار (الآيات)
والناس يقرون بهذا الجانب والقرآن يحتج عليهم بإقرارهم على ما أنكروه من الجانبين الآخرين (التشريعي والجزائي)، أو النبوات والمعاد.
وعلماء السوء يهونون من هذه الردّة الظاهرة، يهونون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله والذي هو حكم الجاهلية فيجعلونه كفرا دون كفر، أو يشترطون الاستحلال، وسيأتي الفصل في ذلك إن شاء الله.
ومن أنكر الآيات الدالات على ربوبيته سبحانه ظلما وعلوا فقد أخبرنا الله عز وجل أنه قد استيقنتها أنفسهم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل: 14]، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم} ومئات السياقات في القرآن يرشد فيها الله عز وجل عباده إلى الاستدلال بهذا الجانب (المخلوقات وتدبير أمرها) على الجانبين الآخرين أو على أحدهما أو على توحيد الأسماء والصفات أو على توحيد الإلهية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الآيات 5-7: الحج[.
وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [سورة القيامة: 36-40]. وقال: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [سورة الزمر: 5].

وقال: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ . أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ . تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ  أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ  قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} [سورة النمل: 61-66]. ولما أعرضوا عن الذكر قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [سورة الشعراء: 7-9].

وكل المخلوقات وحركاتها وسكناتها وأقدارها وتدبير أمرها كل ذلك إنما يكون بكلمات الله القدرية الكونية، وهي كلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر؛ فهي الكلمة العليا التي لا يسبقها شيء وفي الحديث «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» [رواه الترمذي وصححه الألباني]. والعين لا تسبقه لأنها هي أيضا من القدر ولا تكون إلا بقدر وجميع أفعال المخلوقات الأحياء بقدر، قال تعالى: {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [سورة العنكبوت: 39]، وقال: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [سورة الأنفال: 59]، ما شاء الله كان وإن لم يشأه الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة لقمان: 27]، وقوله تعالى في آية براءة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [سورة التوبة: 40] على القراءة بالرفع: هي الكلمة القدرية الكونية. ولاحظ إضافة الكلمات للربوبية في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [سورة الكهف: 109]. وكل ما في السماوات والأرض إنما هي من آلاء الله ونعمه على الناس ابتداء بغير سابقة عمل منهم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان: 21]. وقال: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الجاثية: 12-13]. وقال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
والقرآن يذكر بنعم الله وما تستوجبه وتقتضيه من شكر النعمة من واجب السمع والطاعة وهو أداء الواجبات الشرعية، ليتم نعمته عليهم بالرسل والتشريع والجزاء. قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة المائدة: 7]، وقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة القصص: 17]، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [سورة الزخرف: 13-14].
وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ . رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا . رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة آل عمران: 191 - 194].
هذه الآيات من سورة آل عمران ويل لمن لاكها بين لحييْه ولم يتدبرها.
إن أولي الألباب تناجيهم فطرتهم وعقولهم بأن الإحكام والإتقان والحسبان الدقيق في جميع المخلوقات والحكمة البالغة في كل شيء، والرعاية والاهتمام بهذا الإنسان تناديهم بأن هذا لا يكون باطلا، وبأن الله عليم حكيم ولابد من إرسال الرسل وإقامة الحجة، ولابد من يوم الحساب للثواب والعقاب إذ أَذِن الله قدرا بوجود المؤمن والكافر، المقسط والظالم، والسارق والمسروق، والله يتعالى عن خلق هؤلاء عبثا وتركهم سدى، لذلك استعاذوا بربهم من عذابه {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران: 191]، ثم أتاهم المنادي بالإيمان بما نادتهم به فطرتهم وعقولهم الصريحة أَن آمنوا بربكم فآمَنُوا ورَجُوا الخير من الله سبحانه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، ما الذي يصرفكم صرفا شديدا مفاجئًا عن معرفة نعم الله، وأنه وحده صاحب النعمة؛ فهو وحده يستحق العبادة.
والقرآن مملوء من السياقات المجملة والمفصلة في تقرير النعمة وحقها من الشكر الذي لا يكون أساسا إلا باتباع شرع رب العالمين، وإنما ذكرت إشارات فقط كأمثلة سريعة.
ثانيًا: الجانب الجزائي:
أي الثواب والعقاب في الدنيا، والآخرة غير أن الجزاء الدنيوي داخل تحت الجانب القدري الكوني من الربوبية، ومن أمثلة ذكر الجزاء الدنيوي في القرآن:
}أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [سورة الفجر: 6-14].
}وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الأعراف: 167]. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ} [سورة الرعد: 6].
}رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة البقرة: 201].
}وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} [سورة العنكبوت: 27]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [سورة الأعراف: 137].
ومن أمثلة ذكر الجزاء الأخروي في القرآن: قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [سورة النبأ: 36].
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [سورة القلم: 34]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود: 119]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس: 93]، وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة آل عمران: 194]، وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الزمر: 75].
ثالثا: الجانب التشريعي: وهو الوحي وإرسال الرسل وإنزال الكتب: قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة السجدة: 2]، وقال: {نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص: 30]، وقال: {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف: 104]، وقال: {إِنِّي رَسُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الزخرف: 46]، وقال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ} [سورة الإسراء: 39]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الشعراء: 10]. وقال: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء: 16]. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة النساء: 170]. وقال {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 61]، وقال {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ} [سورة الأعراف: 33]. وقال: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} [سورة الأعراف: 60]، وقال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الأنعام: 80]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي} [سورة الشورى: 10]، وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} [سورة مريم: 19]، ومئات الآيات في ذلك الجانب من جوانب الربوبية، فكيف يكون مؤمنا مَنْ دفع أو أهدر شيئا من ذلك الجانب؟!، وكيف غفل المسلمون كل هذه الغفلة عن
كتاب ربهم وسنة نبيهم حتى أُهدِرت الشريعة وغيبت عن حياتهم وهم شهود، وحكمت فيهم بدلا عنها شرائع الطواغيت، حتى وصل خصوم الإسلام وأعداؤه إلى ما يريدون من إبعاد الإسلام عن حياة المسلمين!!!، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ألا ما أقبح الإرجاء والمرجئة وما أقبح علماء السوء، وما أقبح الدعاة الذين يستعملون آلة الدين للدنيا، ويخطبون بدعوتهم ود السلطان، فيهونون من إهدار الشريعة بجعله كفرا دون كفر ولا يكون أكبر إلا بالاستحلال مثله كمثل مجرد الذنب أو المعصية التي تكون كفرا أكبر باستحلالها.
إن كلمة الشرع الرباني يجب أن تكون هي العليا في حياة الناس، إنها كلمة ربهم عز وجل وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل رياء والرجل يقاتل شجاعة أي ذلك في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». ولو شاء الله لجعل الكلمات الشرعية كالكلمات القدرية مستلزمة لآثارها قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [سورة الشعراء: 4].
فائدة: تلك هي الجوانب الثلاث للربوبية وتظهر فيها آثار مقتضيات وأحكام الأسماء الحسنى والصفات العلى، وينبغي مراعاة ذلك عند دراسة الأسماء الحسنى، ونوضح بمثال نختار فيه اسما له أكبر التعلق بموضوعنا وهو "الحَكَم".
الحَكَم: هو الذي يحكم ما يريد (قدرا وشرعا وجزاءا)، ولا يُرَدّ حكمه وتمتنع معارضته، ويمتنع عليه الظلم بل هو الذي يمنع الظلم وهو صاحب حكمة تمنع من الجهل، وكل ذلك واقع في الجانب القدري والجزائي، أما فى الجانب الشرعي فهو الذي ابتلى الله به المُكلفين كما سبق وفرض عليهم الالتزام به؛ فمن امتنع عن الالتزام فسيأتيه الحكم جزاءا يوم القيامة قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ} [سورة غافر: 47].
من أمثلة الحكم القدري الكوني في القرآن }أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد: 41].
}وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [سورة الطور: 48].
}وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة يوسف: 67].
من أمثلة الحكم الجزائي الأخروي:
}ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [سورة آل عمران: 55].
}الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [سورة الحج: 56].
}ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [سورة الأنعام: 62].
}إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [سورة الشعراء: 4].
وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة يونس: 99].
 وقال: {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [سورة الرعد: 31]، ولكنه أراد ابتلائهم وامتحانهم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف: 29]، ومن شاء فليحكّم شرع الحَكَم ومن شاء فليعرض.
من أمثلة الحكم الجزائي الدنيوي: (وهو يدخل تحت الحكم القدري)
}فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة الأعراف: 87].
}وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة يونس: 109].
}مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [سورة الأنعام: 57].
}رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 112].
من أمثلة الحكم الشرعي:

}إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف: 40].

}أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام: 114].

}إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء: 105].

}وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة: 44].

}وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة: 45].

}وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة: 47].

}أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة: 50].

}إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النور: 51].

وأحيانا ترد كلمة الحكم شاملة للأحكام الثلاث، قال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [سورة الكهف: 26]، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة القصص: 88].

عودة إلى بيان خطورة إهدار أو دفع أو رد شيء من شريعة الرب السيد الملك العلي الكبير ذي الكبرياء صاحب الكلمة العليا:
 من فعل ذلك خرج من الملة بإجماع المسلمين، وإليك طائفة من حكايات الإجماع على ذلك:
قال ابن حزم في (مراتب الإجماع) ولم يعلق عليه ابن تيمية في نقده لكتاب مراتب الإجماع: "واتفقوا على أنه منذ مات النبي صلى الله عليه وسلم فقد انقطع الوحي، وكمل الدين واستقرت الشريعة، وأنه لا يحل لأحد أن يزيد فيها شيئا برأيه بغير استدلال منها ولا أن ينقص منها شيئا ولا أن يبدل شيئا مكان شيء، ولا أن يحدث شريعة وأن من فعل ذلك كافر".
قال ابن كثير (البداية والنهاية): "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر (مثل شريعة موسى وعيسى عليه السلام المنزلة من عند الله)، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه من فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين".
قال ابن تيمية (267/3): "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه فهو كافر مرتد باتفاق الفقهاء."
قال إسحاق بن راهويه: "أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب النبي صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيا من الأنبياء، أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله".
قلت: وما نحن فيه الآن هو دفع عام لما أنزل الله إلا قليلا، وجاري إهدار ما تبقى من الثوابت في النكاح والطلاق والمواريث وما شابه.
ومن العلماء المعاصرين: قال الشيخ الشنقيطي: (كما مر بنا في البداية): "وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا
يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله صلوات الله عليهم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
قال الشيخ حامد الفقي: "من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يُتحاكم إليها في الدماء والفروح والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين من كتاب الله وسنة رسوله فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه بأي اسم تسمى به ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها" (هامش فتح المجيد 406).
قال الشيخ أحمد شاكر: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ نفسه، وكل امرئ حسيب نفسه" (عمدة التفسير 2/172-174)، ثلت: وله كلام نفيس جدا في هذا فارجع إليه.
قال الشيخ محمود شاكر: بعد أن ذكر حكاية أبي مجلز رضي الله عنه مع الإباضية وفظاعة القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه. قال: "فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى وهذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه، والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار حكم غير حكم في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة وادعاء المحتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها" (عمدة التفسير).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز في نقده لدعوة القومية العربية، قال بعد أن ذكر الواقع المزري من تحكيم القوانين الوضعية: "هذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة: 50]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
هذه مجرد طائفة من كلام الأئمة وحكايات الإجماع يستبين به شناعة وفظاعة إهدار الشريعة على النحو الذي تعيشه الآن أكثر بلاد المسلمين. إن الرجل ليسرق ويزني ويشرب الخمر ولا يحرم بذلك من دخول الجنة بل يرجو المغفرة فلا يدخل النار، فَلِم في هذه القضية: يخلد في النار فلا جنة ولا موت؟!، والرجل لا يسرق ولا يزني لكنه فقط يقول: ذلك حلال ومات على ذلك فهو مخلد في النار لا جنة ولا موت.. وأنا أبين لك سر ذلك قبل أن تأخذك الدهشة والعجب:
أولا: إهدار الشريعة في بلد من البلاد فيه تعطيل وإهدار لِمَلِكِيَة الله في هذا البلد: الله تعالى هو رب الناس وملك الناس وإله الناس وهو الملك الحق:
والملك يتصرف بأمره وقوله: "والعبيد والمماليك يسمعون ويطيعون"، أما المالك فيتصرف بفعله، فأخص خصائص الملك الحق: الأمر والنهي وهما الشريعة، فإهدارها: إباء لحق الملك في السمع والطاعة، وبالتالي: إهدار لحق الإلهية. ورب الناس: تمام ربوبيته لهم أن يكون ملكهم، وتمام ملكيته لهم أن يكون إلههم وأفاد هذا المعنى نظم الآيات بدون العطف الذي فيه إيذان بالمغايرة، وتكرار لفظة الناس بدلا من الإضمار كما يقول ابن القيم.
ثانيا: إهدار الشريعة فيه إهدار لحق السيادة لله عز وجل:
الرب هو المالك والسيد والمربّى والمصلح والقائم بشئون المربوبين.
والسيد الله: في حديث عبد الله بن الشخير عند أحمد وأبي داود أن رجلا من وفد بني عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت سيدنا". فقال صلى الله عليه وسلم: «السيد الله»، فقلنا: "فأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا"، فقال صلى الله عليه وسلم: «قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان»، والمراد هنا السيادة المطلقة لله وحده الذي يملك كل شيء ولا يعارض ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم» [رواه مسلم]، وقوله لأصحابه: «قوموا لسيدكم» يريد سعد بن معاذ [قال الألباني اشتهر الحديث على ألسنة المتأخرين واستدلوا به على القيام للداخل ولا أصل لذلك والمحفوظ في الحديث إنما هو بلفظ؛ "إلى سيدكم" كما أخرجه البخاري]، فقال عمر رضي الله عنه: "إن سيدنا الله يا رسول الله"، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنزلوه»، وقوله تعالى عن يحيى عليه السلام: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران: 39]، وقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [سورة يوسف: 25]، وقول أبي بكر رضي الله عنه لسلمان رضي الله عنه أتقول هذا لسيد قريش يريد أبا سفيان رضي الله عنه، فكل هذه سيادة نسبية مقيدة بحسب استعمالها.
قال الراغب: "سيد الشيء هو الذي يملك سواده أي شخصه جميعه" (فيض القدير).
قال الحليمي: "معناه: المحتاج إليه بإطلاق، فإن سيد الناس إنما هو رأسهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن رأيه يصدرون، ومن قوله يستهدون" (فيض القدير).
قلت: ولله المثل الأعلى: وحيه وشرعه يجمع هذه المعاني.
لقد نشب صراع دموي مرير في أوربا على السيادة بين المَلِك والإمبراطور والبابا والكنيسة والإقطاع إلى أن استقروا على أن تكون السيادة للأمة بطريق الأعضاء المنتخبين الممثلين حقيقة لمدنهم أو محافظاتهم فتكون السيادة ممثلة في هذه المجالس البرلمانية تشرع ما تريد، فلما نقلت هذه النظم الكافرة إلى بلاد المسلمين في ظل تنحية أو إهدار الشريعة اختلف الأمر تماما، إذ هؤلاء الأعضاء لا يمثلون أُمَتَهم إلا قليلا فأصبحت السيادة لشخص واحد هو الذي يملك حل هذه المجالس وعقدها، والقاصي والداني والعام والخاص يعرف ذلك، فالأمر إذًا واضح: السيادة الممثلة في التشريع ليست لله وإنما هي لغيره: سواء الأمة الممثلة في المجلس أو للشخص الذي يملك السلطان على المجلس.
فإهدار الشريعة فيه إهدار لحق الله في السيادة كما في الحديث «السيد الله».
ثالثًا: إهدار الشريعة فيه إهدار لحق الله في الكبرياء في الأرض:
قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية: 36-37].
قال ابن كثير: "قال مجاهد: الكبرياء: يعني السبطان: أي هو العظيم المُمَجَد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه".
وورد فى سورة يونس بيان قرآني لمعنى الكبرياء: قال تعالى حاكيًا عن قوم فرعون {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [سورة يونس: 78]، أي: وتكون لكما العظمة والرياسة والسيادة والتشريع في أموالنا وحياتنا وأنفسنا ونكون لكما عبيدا تابعين حيث الكلمة كلمتكما والشورى شوراكما!!
وموسى عليه السلام لم ينف أنه جاءهم بذلك، جاءهم بدين الله لتكون السيادة لله، ولتكون الكبرياء لله بأرض مصر وحده لا شريك له، كما له الكبرياء في كل الأرض كما له الكبرياء في السماوات، وما من رسول إلا قال لقومه: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".
كما قال يوسف عليه السلام {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف: 67]، والعبادة فيها غاية الذل والتعظيم للملك السيد الذي له الكبرياء في السماوات والأرض. ولقد ورد لفظ الكبرياء في الحديث القدسي «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما، قذفته في النار»، وكما يقول شيخ الإسلام: "الرداء أشرف وأعلى من الإزار، وبذلك تكون الكبرياء أكمل من العظمة، فتتضمن العظمة والسلطان والسيادة، أما العظمة فلا تتضمن الكبرياء، وإن كانت تستلزمها.
أما سورة الجاثية التي خُتمت بهاتين الآيتين فلها مبحث خاص مستقل، واختصاره أنها من بدايتها إلى نهايتها نظم رائع في بيان الجوانب الثلاث للربوبية، وما يقتضيه كل جانب ويستلزمه حيث خُلق الكون كله بالحق: صادرا عن العلم والحكمة (العليم الحكيم) وهذا هو الحق السابق للخلق، مشتملا على العلم والحكمة وما اشتملت عليه المخلوقات من الحِكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد على الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسله وأن لقائه حق لا ريب فيه، وهذا هو الحق المقارن لهذه المخلوقات، آيلا إلى الحق الذي هو غاية خلقها، وهى غايتان: غاية تراد من العباد: وهي أن يعرفوا ربهم وكمالاته عز وجل، ويعبدوه لا يشركوا به شيئا، وغاية تراد بالعباد: وهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب.
فالحق سابق للخلق مقارن له غاية له، لذلك أتى بالباء (بالحق) الدالة على هذا المعنى دون اللام التي تفيد معنى الغاية وحدها (انظر بدائع الفوائد 4/162-165).
فهذا النظم العجب لا تجد له ختاما مثل الذي ختمت به السورة {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية: 36-37].
فقف عند كل كلمة فيها ولاحظ ما يلي:

1. الاختصاص في الحمد {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} [سورة الجاثية: 36]، وفى الكبرياء {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ}. والحمد: الكمال كله بلا ذرة من نقص فلا تجد الخلائق كلها عليه سبيلا، وستشهد بذلك عند انتهاء القضاء بين العباد {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الزمر: 75]، فلم يظلم أحدا ولم يخطئ خطأً ولم ينس شيئا فلم يجدوا عليه سبيلا.
2. الربط بين الاختصاص بالحمد وبين الربوبية بجوانبها كما سبق.
3. الربط بين ربوبيته للعالمين وربوبيته للسماوات والأرض كما قال إبراهيم عليه السلام: {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [سورة الأنبياء: 56]، وكما قال أصحاب الكهف: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} [سورة الكهف: 14]، وكما قال تعالى في غير موضع {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} ولاحظ أن رب العالمين هنا في (الجاثية): بغير حرف العطف للتنبيه على هذا المعنى.
4. الكبرياء: كما سبق: العظمة والسلطان وتتمثل أول ما تتمثل في حياة الناس في الشرائع التي أنزلها الله لعباده.
5. الربط بين {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} وبين الربوبية في الآية السابقة، فالكفر بالشريعة كفر بمن له الكبرياء وهو كفر بالربوبية للسماوات والأرض والعالمين.
6. لو شاء الله ما تخلفت بقعة من أرض عن التزام تحكيم شريعته فهو العزيز، لكنه هو أيضا الحكيم الذي خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا.

رابعًا: إهدار الشريعة فيه إهدار لكلمة الله فضلا عن أن تكون هي العليا:
وهذا أمر لا يجهله أحد، مثلا: حرم الله الزنا وجعل عقوبته الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن. تلك هي كلمة الله في الزنا. أما في القانون الوضعي: إذا تم الزنا برضا الطرفين (الزانية والزاني) فلا جريمة ولا عقوبة، تلك هي كلمة القانون الوضعي أو كلمة الطاغوت، والواقع الآن أن كلمة الطاغوت هي العليا ولها السيادة ولها الكبرياء، فهي النافذة بقوة الدولة، والناس لا يملكون اعتراضًا، أما كلمة الله فمدفوعة مهدرة لا وجود لها.
ولقد سبق الحديث «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا»، وهى النافذة وذات السيادة والكبرياء والسلطان).
وتتم المناقشات التشريعية الوضعية في أمور لله فيها كلمة، وتصدر القوانين الوضعية بلا اعتبار لكلمة الله وكأن شيئا لم يكن. ثم يأتي الدعاة من طلاب الدنيا بجهل وظلم ليقولوا للناس: هذا كفر دون كفر ولا يكون كفرا أكبر إلا بالاستحلال!! قاتلهم الله أنى يؤفكون!!

وإن عليك أيها المسلم كلما سجدت وقلت: سبحان ربى الأعلى أن تذكر أن عليك أن تكون مع الصادقين، الأعلى يجب أن تكون كلمته هي العليا في حياتك في نفسك وأهلك ومالك وتعاملاتك، وإن كفر بها من كفر.
خامساً: إهدار الشريعة كفر بدعاء الله باسميه "العلي الكبير":
كبير القوم (العائلة - القبيلة - وما شابه) هو أعلمهم وأفضلهم، يرجعون إليه في المهمات واحتمالُ خطئه أو ضلاله مستبعد عندهم، وكلمته فيهم نافذة مسموعة مطاعة، فهي عليا لا تساميها كلمة لآحادهم، ينادونه: "يا كبير، ما تقول في كذا وكذا". أما الذي يلي تدبيرهم فهو سيدهم، وقد يقال للسيد: "الكبير"، لكن لا يقال للكبير سيدا حتى يلي تدبيرهم. (راجع الفروق لأبي هلال العسكري)، لا سيما إن دخل في الكهانة وادعاء علم الغيب وقراءة المستقبل.
قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ} [سورة يوسف: 80]، إلى قوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [سورة يوسف: 82]، وكبيرهم أعلمهم وأفضلهم وأرضاهم رأيا عندهم، أما كبيرهم في السن فكان روبيل أكبرهم سنا، فسمعوا قول كبيرهم وأطاعوه وعملوا بما أمرهم به تماما.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} [سورة طه: 71]، فهو المعلم المطاع الذي لا يخالف. والصبي من أهل الحجاز إذا جاء من عند معلمه يقول: "جئت من عند كبيري".
قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة الأنعام: 123] ففي كل قرية مجرمون، وأكابر المجرمين هم الذين يمكرون فيها بالأمر بالكفر وجعل الأنداد لله كما قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} [سورة سبأ: 33].
وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [سورة الأحزاب: 67-68]، السادة هم الأمراء الذين يلون تدبيرهم والكبراء هم علماؤهم ومشيختهم كما يقول ابن كثير في تفسيره.
والسيد الحق هو الله عز وجل كما سبق بيانه، والكبير الحق: هو من له الكمال في العلم حقا، وهو عالم الغيب والشهادة حقا، وله الكمال في الحكمة حقا، وهو العلي الأعلى حقا بجميع معاني العلو لا سيما علو القدر والقهر والفضل، وهو المتعال حقا عن الظلم والضلال والنسيان والخطأ وجميع النقائص ولقد أفاد كل هذه المعاني: اقتران الكبير بالعلي (خمس مرات في القرآن) واقترانه بعالم الغيب والشهادة والمتعال (مرة واحدة)؛ فهو العلي في كل كمالاته، كما هو المتعال عن جميع النقائص، فهو الكبير الحق، وكل ما يدعى من دونه من الكبراء وغيرهم هو الباطل قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج: 62]. ومثلها في سورة لقمان مع اختلاف: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة لقمان: 30]، إذًا فهو وحده المستحق للاستسلام له والاستماع لوحيه والإنصات له والطاعة له وتحكيمه في كل شيء، وقبول حكمه والرضا به بلا أدنى مثقال ذرة من حرج من قضائه، مع العمل الفوري دون توان أو فتور أو تفريط كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65]، بل يؤخذ وحيه بقوة.
ولننظر الآن كيف تستقبل السماوات العلا وما فيهن من الملأ الأعلى كلام الله إذا تكلم بالوحي:
قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ: 22-23]، هذه الآية قطعت كل عروق الشرك ثم ختمت بما يؤكد الوحدانية ببلاغة منقطعة النظير، وبسط ذلك في موطن آخر.
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
»إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعانا أو خُضْعانا لقوله كأنه سلسلة على صنوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالوا للذي قال: الحق وهو العلىّ الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا بكذا وكذا: كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء» [رواه البخاري]، قلت فيكون ذلك من أسباب علو الكاهن في قومه ليصبح كبيرا يُسْمع له ويطاع.
ومن حديث النواس بن سمعان عند الطبراني مرفوعا:
»إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟، قال الحق فينتهي به حيث أُمر»، وعند ابن أبي حاتم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة شديدة أو قال: رعدة شديدة من خوف الله«.

فإذا كنت قد علمت حال السماوات من الرجفة الشديدة إذا تكلم الله بالوحي أو قضى الأمر في السماء، وحال الملائكة إذ يصعقون ويخرون ساجدين، وحال النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، وقول جبريل ومن معه في نهاية كلامهم {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ: 23]، فما حالك عندما تستقبل كلام العلي الكبير أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قولك في إهدار شريعة العلي الكبير جملة وتفصيلا وتنحيتها عن حياة المسلمين على النحو الذي تعلمه؟
وما قولك فيمن جعل ذلك كفرا دون كفر، واشترط له الاستحلال ليكون كفرا أكبر مستدلا بقول أهل العلم عن القاضي المسلم الملتزم للشريعة الحاكم بها لكنه في واقعة معينة تحت تأثير رغبة أو رهبة أو هوى أو رشوة تلاعب في إثباتها أو في نفيها أو في تكييفها حتى لا تدخل تحت العقوبة الشرعية أو العكس، فتلاعُبُه في تحقيق المناط لا في تحليل حرام ولا في تحريم حلال ولا في تبديل شرع، فهذا القاضي حكمه عند أهل العلم: كفر دون كفر ما لم يستحل تلاعبه هذا، فما قولك أيها القارئ فيمن أخذ هذا الحكم وأنزله على من أهدر الشرع وحكّم القوانين الوضعية مخالفا بذلك ما أجمعت عليه الأمة.
قال ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع): "باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع وذكر تحته ضمن ما ذكر: واتفقوا على أنه مذ مات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد انقطع الوحي وكمل الدين واستقرت الشريعة.. الخ"، وقد سبق ذكره مع حكايات إجماع أخرى. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يسلم لابن حزم في الإجماع على كفر المخالف وضرب لذلك مثلا، وهذه مسألة دقيقة لا يتسع المقام لبسطها وإنما أردت أن أبيّن شناعة المخالف وأنه على خطر عظيم، ولولا عوارض الأهلية كأن يُعذر بجهله مثلا لكان حكمه كما ذكر ابن حزم رحمه الله.
ولا أطيل الكلام عن قول العلامة محدث الزمان الشيخ الألباني أنه كما رد عليه الشيح ابن جبرين قائلا: "من قال بذلك من أهل الزمان فهو محجوج بإجماع السابقين"، وكما رد أيضا الشيخ ابن عثيمين على كلمة الشيخ الألباني في جريدة (المسلمون) وهي فتوى مشهورة منشورة.
وأقول لهؤلاء :"إن الشيخ الألباني بشر يصيب ويخطئ، فدخلت عليه داخله، أو اغتر بكلام المرجئة، وهو إمام عظيم غير متهم والحق أحق أن يتبع لا سيما وقد أجمع عليه المسلمون".

 
المصدر: منقول دروس الشيخ فوزي السعيد
  • 20
  • 1
  • 40,304

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً