أوراق في السيرة و الأخلاق - هذا الأمين ..رضينا!

منذ 2016-02-23

كانت مكة؛ بعد أن رفع إبراهيم عليه السلام قواعد البيت مع إسماعيل؛ مركز دين التوحيد والملة الحنيفية السمحة. لكن مع تقادم العهد وتوالي الأيام؛ اعترى العقيدة ما يعتري الجسم من لوثة وفساد.

في الحياة المحمدية قبل البعثة محطات يجدر الوقوف عندها؛ وتلمس ما تنطوي عليه من معان ودلالات.

وإذا كنا نعيب على بعض الباحثين احتكامهم إلى العقل المجرد في تأويل أحداث السيرة؛ فهذا لا يعني بالضرورة استفراغ الجهد في تصحيح السند وتحقيق الرواية! بل إن واجب الاقتداء يفرض تجديد الوقوف عند هذه الأحداث؛ وإعمال النظر المتزن في مجرياتها؛ مع استحضار التوقير اللازم لصاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام.

وحادثة التحكيم هي إحدى المحطات التي قلما توقف عندها باحث؛ وأعمل فيها فكره! إذ أن دلالتها تتخطى حدود الإشادة برجاحة عقل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وحسن تدبيره للخلاف؛ صوب التمهيد للنبوة وما أحدثته من انقلاب عظيم في النفسية العربية!

قبل البعثة بسنوات قليلة تعرضت الكعبة لتصدع بنيانها بفعل سيل جارف؛ فقررت قريش إعادة تشييدها لما يحظى به هذا البيت من حرمة وقداسة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شاركوا في نقل الحجارة وعمره آنذاك خمس وثلاثون سنة على الأرجح. فلما فرغوا من البناء وأرادوا وضع الحجر الأسود موضعه؛ شب الخلاف بين أشرافهم حول من يحظى بهذه المزية؛ وكادت نار الحرب أن تُسعر حتى أن بني عبد الدار وبني عدي قربوا جفنة مملوءة دما وتعاهدوا على الموت!

دامت الخصومة أربع ليال أو خمسا قبل أن يبتدرهم أحد عقلاء مكة برأي حكيم تطيب به الخواطر. ذلك أن "أبا أمية بن المغيرة؛ وكان عامئذ أسن قريش كلها؛  قال: "يا معشر قريش؛ اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه". ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين؛ رضينا! هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: صلى الله عليه وسلم: «هلم إلي ثوبا»؛ فاُتي به؛ فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا؛ ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده؛ ثم بُني عليه" [1].   

يكشف هذا الحدث إذن عن الإقرار الجماعي بحكمة النبي وسداد رأيه؛ وهو تتويج للاستقامة الخلقية التي وسمت علاقته بالمجتمع المكي بميسم خاص. وإذا أضفنا الإجماع على صدقه قبل أن يجهر بدعوته من فوق الصف [2]  تبين لنا أن الإخبار بنبوته كان ينبغي أن يُقابل بالغبطة أو على الأقل بالتروي وإعمال الفكر فيما يُنادي به؛ فما السر إذن في مناهضتهم له؛ وإنكارهم لدعوته رغم أنه لم يكن بدعا من الرسل؟

إن محاولة فهم وتحليل الموقف القرشي من الدعوة؛ والذي انتقل محمد صلى الله عليه وسلم بموجبه من مربع "الصادق الأمين" إلى مربع "الكذاب والساحر والمجنون والكاهن" تقتضي أولا الوقوف عند طبيعة الفكر الديني الذي ساد مكة قبل بزوغ فجر الإسلام.

كانت مكة؛ بعد أن رفع إبراهيم عليه السلام قواعد البيت مع إسماعيل؛ مركز دين التوحيد والملة الحنيفية السمحة. لكن مع تقادم العهد وتوالي الأيام؛ اعترى العقيدة ما يعتري الجسم من لوثة وفساد. فبعد أن آلت السيادة على مكة لقبيلة خزاعة؛ قرر أميرها عمرو بن لحي استبدال ما تبقى من دين إبراهيم بعقيدة جديدة استلهم طقوسها من زياراته المتكررة لبلاد الشام والعراق. كان القرار سياسيا بالدرجة الأولى فقد رأى في الوثنية "وسيلة لإيجاد سند مادي يعتمد عليه في تدعيم نفوذه السياسي؛ لذا تخلى عمرو عن الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل؛ وأقام الأوثان عند الكعبة ونصب كبيرها "هبل" في بطن الكعبة" [3].

كان من الطبيعي أن تلقى هذه الانتكاسة الدينية معارضة من لدن العقلاء. ورغم نجاح عمرو بن لحي في إخماد صوتها؛ إلا أن صدى التوحيد بقي يتردد في أعماق الشعور الديني؛ ويحول دون تمكن الوثنية من عقل البدوي وقلبه. وما يؤيد هذه الحقيقة جملة ملاحظات يخلص إليها كل من يستقريء الواقع التاريخي لشبه الجزيرة قبل الإسلام؛ وفي مقدمتها:

  • أن الفكر الديني آنذاك كان يتسم بالسذاجة وبناء أمر الإيمان على التقليد الأعمى لا على أساس العقل المفكر في الدين. لذا نجد تراث العرب خاليا من أي أثر للفكر النظري أو القضايا العقلية المصاحبة لفعل التدين[4].
  • أنهم كانوا على يقين بأن الوثنية لم تعتمد على رسالة سماوية أو نبوة؛ وإنما هي تقاليد ورثوها عن أسلافهم؛ لذا كانت طقوسهم خالية من العاطفة الدينية والتعلق الروحي. بل إننا نجد من الشواهد ما يؤكد سخريتهم بهذه الأوثان؛ وامتعاضهم من الخضوع لها. ومن ذلك أن أحدهم ذهب إلى صنم يُقال له "سواع" فوجد ثعلبين يلحسان ما حوله من طعام ثم يبولان عليه؛ فأنشد قائلا:

  إله يبول الثعلبان برأسه *** لقد ذل من بالت عليه الثعالب!

  • أن ضمور العاطفة الدينية حال دون تعيينهم لرجال رسميين يتولون الخدمة الدينية لهذه الأوثان كما نجده حتى في القبائل البدائية [5] بل انصرفت عنايتهم بالأساس لخدمة الكعبة وسدانتها.

فكيف نبرر إذن تعصبهم للوثنية؟

وهل كانت مناهضتهم لدعوة الإسلام في بدايتها دفاعا عن الوثنية كعقيدة رسخت في صميم ماهية الإنسان العربي؛ أم على الوثنية كتزكية لوضع اجتماعي واقتصادي قائم؟

ابتدعت قريش قبل عام الفيل مذهب "الحُمس"؛ وهو مذهب يُضفي على قريش ميزة طبقية  ودينية من دون سائر العرب؛ على اعتبار أنهم من نسل إبراهيم عليه السلام؛ وأنهم وُلاة البيت وأهل الحرم. وبالغوا في وضع تشريعات تربط عصبيتهم القبلية بحرمة الكعبة لتعزيز سطوتهم على العرب؛ وتقوية مركزهم المالي. يخلص الدكتور محمد الفيومي بعد تحليل المحتوى الفكري لهذا المذهب إلى القول بأن قريشا "عززت وضعها الاقتصادي برحلاتها التجارية؛ وعززت أيضا وضعها القبلي بتشريعاتها الوثنية؛ وارتباطها بالبيت حتى أصبح كل من يتمرد على قريش؛ فهو يتمرد على قدسية البيت؛ ومن يتمرد على البيت فهو يتمرد على قريش. وبهذا أصلت الوثنية الوضع القبلي؛ وأصبح هدم النظام القبلي يستدعي هدم النظام الوثني.. وهذه عقبات في سبيل الإصلاح" [6].

فنحن إذن في الحقيقة أمام دفاع عن امتيازات اُسبغت عليها القداسة؛ وعن وضع قائم يُغذيه الجهل بحقيقة الحبل المتين الذي يصل الرسالة المحمدية بدعوة إبراهيم عليه السلام.

استمرت المعارضة للوثنية دليلا على استقرار بذرة التوحيد في النفوس؛ وكانت طائفة الحنفاء[7] شاهدا على نقاء الفطرة وسلامتها. فجاءت رسالة الإسلام لتنتشل العاطفة الدينية من وهدة التخبط والركون إلى ممارسات يمُجها العقل السليم. والنبي صلى الله عليه وسلم؛ بإيقاظه لهذه العاطفة؛ هز أركان النظام الوثني والقبلي على حد سواء؛ وهذا في الحقيقة ما أذكى عداوة قريش له بعد أن فشلت في استمالته!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - عبد السلام هارون. تهذيب السيرة لابن هشام. ص55

[2] - لما نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] صعد عليه الصلاة والسلام على الصفا  وجعل  يُنادي: «يا بني فهر يا بني عدي» حتى اجتمعوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذبا؛ قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. (رواه البخاري).

[3] - د.علي حسن الخربوطلي .تاريخ الكعبة .دار الجيل .بيروت.ط3 .1411هـ .ص 30

[4] -  راجع: د.علي مبروك. النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ .

[5] - محمد فريد وجدي .السيرة المحمدية تحت ضوء العلم و الفلسفة.الدار المصرية اللبنانية. ط1 1993 . ص132

[6] - د.محمد إبراهيم الفيومي. في الفكر الديني الجاهلي .دار المعارف.ط 3 .1982. ص 241

[7] - هم الذين أنكروا ما أدخلته قريش على ملة إبراهيم من بدع في العقيدة والشريعة وخصوصا شريعة الحج؛ ومن أبرز من مثل هذه الطائفة: زيدبن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش وغيرهم.

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 3,470
المقال السابق
أشواق المرأة المسلمة
المقال التالي
درس المؤاخاة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً