المغرد الملثم
إن من المحزِن والمخيف في الوقت ذاته: أن تتحول وسائلُ التواصل إلى أسبابٍ قويّة للتقاطع والتدابر، والاصطفاف بأنواعه عند أدنى قضيةٍ تُطرح، ولو كانت تافهة!
موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) هو صورة مكرّرة لما يَحدث في كثيرٍ من تلك المواقع الاجتماعية، والقارئُ الكريم لا يحتاج إلى شرحٍ لما يدور في هذه المواقع من أخذ وردّ، وسِجال لفظي، واصطفافٍ متنوع؛ رياضي، وقَبَلي، وفكري، وثقافي... إلخ.
ومما لفت نظري -وأنا على أبواب العام الخامس من دخولي في هذا العالم- أن هناك نوعيةً من المغردين، يمكن أن يُسمّى الواحد منهم: (المغرد الملثَّم)! يستتر خلفَ معرّف مجهول الهوية، وبصورةٍ رمزية! وكل هذا قد يبدو غير مستنَكر، لكن حين يبدأ هذا المغرد الملثّم باستعمال أسلوبِ الوصاية على غيره، ومحاكمته على تغريداته، ومطالبته بالتغريد عن بعض الأحداث، وبالطريقة التي يريدها هو، لا بما يريدها صاحب المعرّف! وكأننا في زمنِ فتنة القول بخلق القرآن! إما أن تُجيب وإلا...!
فهذا كلّه مما يَأنف منه العاقل، ويستثقله اللبيب، ويمقته الإنسانُ السَّويّ، خاصة وأن غالب هذه المناكفات من هؤلاء "الملثّمين" تقع في قضايا يسوغ فيها الاجتهاد، وللنظر فيها مسرحٌ، ويَسَع الإنسانَ أن يختار منها ما يشاء، أو على الأقل يَسكت؛ لأنه ليس له في هذه القضية أو تلك رأيٌ معيّن.
وهذا المغرد (الملثّم) الأرقع، المستتر خلفَ لوحة مفاتيحه ينسى منزلته -في غمرة تعليقاته، وتقمّصه شخصيةَ المحقِّق، ومَحاضِر التحقيق التي يفتحها-، فيبيح لها امتحانَ الناس، واتهامهم في نياتهم، وتزكيةَ نفسه من حيث لا يشعر، فيَبهت هذا، ويرمي هذا ظلماً وعدواناً، ويَستعدي عليه مَن يرى أنه يمكن أن يُوصِل له ضرراً ولو قلّ! ولو لم يكن منه إلا تأليب بعض المغردين عليه، ليمارسوا الدورَ نفسَه! ولا أدري متى سيتوقف عدّاد سيئات هؤلاء! وتدوير رسائل البهتان والظلم مستمر؟! وتصويرها وتداولها في بقيّة وسائل التواصل قائمٌ على سُوْقه؟
ويَعظم الخطبُ إذا كان هذا الهجوم المنظّم مغلّفاً باسم الدين، ومجللاً بلبوس الغيرة، وأنك إن لم تفعل ما يمليه هذا المغرد الملثم فأنت ناقص الدين، ضعيف الغيرة أو فاقدها!
والسؤال: إذا كان هؤلاء (الملثَّمون) قد أَمِنوا العقوبة في الدنيا؛ فأين يذهبون من صُحُف الكرام الكاتبين؟ وبماذا سيجيبون ربَّهم إذا الصحف نُشِرت؟ وقيل للمظلومين المبهوتين: خذوا من حسناته بقدْر ظلامتكم؟!
أين يذهب هؤلاء الملثمون من ذلك يومٍ {تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]؟
وأين هم من يوم سيشهد {عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:20، 22]؟
إن من المحزِن والمخيف في الوقت ذاته: أن تتحول وسائلُ التواصل إلى أسبابٍ قويّة للتقاطع والتدابر، والاصطفاف بأنواعه عند أدنى قضيةٍ تُطرح، ولو كانت تافهة!
وما يُشاهَد قُبَيل وبُعيْد المباريات الرياضية، وما أفرزته مِن تعصّب مقيت، وما فتحت على المجتمع من ألوان التصنيف والتقسيم، في وقتٍ الأمةُ أحوج ما تكون إلى الاجتماع، ونبذ أسباب التفرق؛ إلا أكبر دليل على ما ذكرتُه.
إن الواجب على العقلاء الذين لهم حضور إيجابي في هذه المواقع؛ أن يكون لهم دورهم في التوعية بهذه المعاني، قبل استفحال الأمر، واتساع الخرق على الراقع، وإلا فستكون تكاليفُ التصحيحِ والعلاج باهضةَ الثمن.
وأما المغرد الملثم، فإنني أوصيه بوصيةِ مَن يحب الخيرَ له، فأقول: اتق الله، وتذكّر يوم تُعرَض على الله لا تَخفى منك خافية، ولن ينفعك استتارُك خلف معرِّفك، أو اعتذارُك بأن فلاناً أغراك بمناكفةِ فلان، أو تشويه سمعةِ فلان، فستحاسَب وحدَك، وستنجو أو تهلك وحدَك: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95].
- التصنيف:
- المصدر:
Abdulrahman Mahmood AL-Sharabi
منذAbdulrahman Mahmood AL-Sharabi
منذ