الوقف لكل الناس

منذ 2016-02-24

في غرس النخل والزروع نماء للمجتمع، وتوفير الحاجيات الأساسية، وتحقيق الأمن الغذائي، والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج؛ كمّاً ونوعاً.

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له منه صدقة»[1].

يبشرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن الغرس باب من أبواب البر والخير، يسلكه المؤمن رغبة في إعمار الأرض، ودوام الأجر والثواب.

وأن ما من مسلم يغرس غرساً، أي: يثبت الشجر في الأرض، أو يزرع الزرع-والغرس غير الزرع- فيأكل من المزروع أو المغروس إنسان أو طير أو بهيمة باختياره أو من غير اختياره؛ إلا كان له به صدقة إلى يوم القيامة، ما دام يُنتفع من زرعه وغرسه.

وفي رواية مسلم عن جابر: «ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق له منه صدقة، وما أَكل السبع منه فهو له صدقة، وما أَكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة»[2].

وجاء في الحديث: «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته...»([3])، وذكر منها: «غرس النخل»، فمن غرس نخلاً وسبل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم، وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان أو حيوانٍ، وهكذا الشأن في كل غرس كل ما ينفع الناس من الأشجار.

ففي غرس النخل والزروع نماء للمجتمع، وتوفير الحاجيات الأساسية، وتحقيق الأمن الغذائي، والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج؛ كمّاً ونوعاً.

ومن فضل الإسلام: أن جميع أعمال المسلم التي ينتفع بها غيره يثاب عليها في الآخرة؛ حتى وإن كان المنتفع حيواناً أو طيراً، ولا يكون ذلك إلا للمسلم، ولذلك سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أُم مُبَشِّر الأنصارية قائلاًَ لها: «من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟»، فقالت: بل مُسلم، فقال: «لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابَّة ولا شيءٌ إلا كانت لهُ صدقةٌ»[4].

وكان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان لهم أجراً في الإحسان إلى البهائم، وفي سقيها وإطعامها، فأجابهم بأن في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ، أي: في كل كبد حي أجر.

وقد حرص الصحابة رضي الله عنهم على وقف البساتين والزروع والحوائط قربة إلى الله، ونفع للعباد، وكل كبد رطبة، وأشهدوا على ذلك، وبعضهم تولى نظارتها ورعايتها وتوزيع نتاجها في حياته، وأوصى بمن يتولاها من بعده، فعمر ا قد أوقف أرضه في خيبر -وهي أنفس ما ملك-، ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرضه بينبع، ووقف أبو طلحة رضي الله عنه مزرعته (بيرحاء) -وكان فيها أجود نخل المدينة-، وأوقف عمرو بن العاص رضي الله عنه أرضه المسماة: (الوَهَط والوُهَيْطِ) في الطائف، ووقف جابر بن عبد الله رضي الله عنه بستانه؛ على أن لا يباع ولا يوهب ولا يورث.

وروى أحمد -بسنده- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»[5]، أي: إن قامت القيامة وفي يد أحدكم نخلة صغيرة –الفسيل: صغار النخل- فإن استطاع أن لا يقوم من محله الذي هو جالس فيه حتى يغرسها فليغرسها؛ ندباً.

فالمسلم يستمر على عمل الخير، ومنه: الغرس، ولو كان قبل القيامة بلحظات، فإنه مأجور على ذلك.

جاء في «فيض القدير»: "والحاصل: أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها.

فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة"[6].

فإن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً؛ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، بل خلقهم من أجل غاية حددها لهم، وهي: عبادة الرب، وعمارة الأرض، وتزكية الأنفس. وقد ورد الثناء على من يأكل من كسب يده؛ كما في قوله  صلى الله عليه وسلم عندما سُئل أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»[7].

وغرس الزرع حث على الجد، وذم البطالة، وتوجيه العاطلين إلى مصادر الكسب الحلال، قال ابن حجر: "ومن فضل العمل باليد: الشغلُ بالأمر المباح عن البطالة واللهو، وكسر النفس بذلك، والتعففُ عن ذلة السؤال، والحاجةِ إلى الغير"[8].

وقال -أيضاً-: "فيه الحث على عمارة الأرض، وأن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً، ولو مات زارعه أو غارسه"[9].

وفي الحديث ترغيب في أعمال الخير، وأن الغرس والزرع صدقة جارية إذا انتفع به الغير من آدمي أو طير أو دابة، وأن الغرس نوع من أنواع العبادات التي ينبغي للموسرين ألا يحرموا أنفسهم منها، وأن أجرها باق للإنسان بعد موته.

لا شك أن القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها بالزروع مقصد من مقاصد الوقف الإسلامي، والذي يسهم في تلبية حاجات المسلمين -وغيرهم- الضرورية من الطعام والغرس والزرع صورة من صور التكافل الاجتماعي، ومظهر من مظاهر اهتمام المسلمين بشؤون مجتمعهم، وضمان مستقبل أجيالهم؛ لتكتفي الأمة المسلمة بما لديها من موارد اقتصادية بدل أن تستجدي الطعام من غيرها، أو تنتظر إحسان الآخرين عليها.
_________________
[1] - أخرجه البخاري في «صحيحه»، (كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم)، برقم: (6012)، ومسلم في «صحيحه»، (كتاب: المساقاة والمزارعة، باب: فضل الغرس والزرع)، برقم: (1552).
[2] - أخرجه مسلم في «صحيحه»، (باب: فضل الغرس والزرع)، برقم: (1552).
[3] - أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/390)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» برقم: (3602).
[4] - أخرجه مسلم في «صحيحه»، برقم: (1553).
[5] - رواه أحمد (12512) واللفظ له، والبخاري في «الأدب المفرد» (1/168)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وآخرون: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، انظر: «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (20/296)، المحقق: الشيخ شعيب الأرناؤوط -حفظه الله-.
[6] - «فيض القدير شرح الجامع الصغير» (3/30) لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، (ط1/1356هـ).
[7] - أخرجه الحاكم في «المستدرك»، عن أبي بردة، برقم: (2203)، وصححه الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة»، رقم: (607).
[8] - «فتح الباري» (4/ 384).
[9] -  المصدر السابق، (5/ 6).

عيسى صوفان القدومي

- بكالوريس - تربية 1987م . - ماجستير - دراسات إسلامية 1998م . - دكتوراه - التاريخ والفكر الإسلامي 2012م.

  • 0
  • 0
  • 6,471

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً