لقاء العظيمين

منذ 2016-02-25

فإبراهيم الآن يتحدث عن الجنة حديث من غادر الدنيا، ويخبر أن الجنة أرضها طيبة مباركة، ومياهها عذبة حلوة. وأن الله خلق فيها مساحات مستوية لا نبات فيها، فهي قيعان، لكي يغرس المؤمن فيها أشجاره بقوله "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

الحمد لله وبعد،، تخيل معي أنه قد اجتمع اليوم أهم رمزين من رموز الفكر العربي، أو أهم رجلين من رجال السياسة في عالمنا العربي، أو دع المقترح يكون أكثر مرونة: ولنتخيل اجتماعًا انعقد اليوم يضم أهم شخصيتين في العالم الإسلامي. برأيك وفي تقديرك: ما هو الموضوع الذي تتوقع أن يفتح على طاولة الاجتماع؟

هل تتوقع مثلا أن يكون الموضوع عن الحرية؟ أو ربما يكون موضوع الاجتماع عن النهضة والحضارة والتنمية؟ أم عن البطالة والإسكان؟ أم عن تطورات الإعلام؟ أم أزمة الاقتصاد؟ أم عن ماذا يا ترى؟ ما هو أعظم ملف يمكن أن يليق باجتماع أهم شخصيتين فكريتين، أو أهم شخصيتين سياسيتين في العالم العربي أو الإسلامي؟

حملق في ذهني هذا السؤال المتخيّل بينما كنت أقرأ خبرًا موثوقًا عن اجتماع أهم شخصيتين في تاريخ العالم، وأدهشني جدًا الموضوع الذي دار الحوار بينهما على أساسه. ربما يعود السبب إلى أننا تعودنا على نمط معين من الأجندات والقضايا في الاجتماعات الهامة، ولذلك اندهشت من موضوع هذا اللقاء بين أعظم شخصيتين في تاريخ البشرية! أو ربما يعود الأمر إلى ذوق فكري معين تعودنا عليه في ترتيب القضايا ذات الشأن العام، فصارت هرمية الأولويات الفكرية الخفية في أذهاننا تتحكم في مفكرة اجتماعاتنا رفيعة المستوى..

المهم .. أنني متأكد أن مزاج القارئ المعاصر يتحرك في مسار غير المسار الذي وصل إلى مستواه هذان العظيمان في تاريخ النوع الإنساني، وبشكل خاص فهم هذين العظيمين للقضايا المصيرية والحاسمة التي تستحق أن تنفق فيها الاجتماعات وتبذل فيها الأوقات.

على أية حال، أشعر أن صديقي القارئ الآن متشوف للاطلاع على قصة هذا الاجتماع لأهم رجلين مشيًا على هذا الكوكب. لا بأس.. دعني أنقل لك الآن هذا الخبر التاريخي عن اللقاء عالي الطبقة الذي ضم أهم شخصيتين إطلاقًا في أرشيف بني آدم، عفوًا .. أحببت أيضًا أن أؤكد أن مكان اللقاء هو أيضًا مكان متفرد .. موقع استثنائي .. يليق بعظمة هاتين الشخصيتين؛ فقد تم تحديد مكان الاجتماع في منزل لا يصله أكثر الناس، بل هو موقع خاص لفئة معينة من القادة والمؤثرين.

أما الشخصيتين محل اللقاء .. فبديهي طبعًا أن أهم وأعظم وأجلّ شخصيتين في تاريخ النوع الإنساني كله هما:
إبراهيم بن آزر بن ناحور  ومحمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليهما وآلهما وسلم. وكون هذين هما أفضل رجلين خلقهما الله هذه حقيقة معروفة عند المسلمين، خذ مثلاً قول ابن تيمية: "وأفضل الخلق: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم صلى الله عليهما وسلم" [ابن تيمية، الاقتضاء:2/833، طبعة الرشد]. وقال ابن تيمية أيضًا: "فصلٌ: وأفضل الأنبياء بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم الخليل" [ابن تيمية، الفتاوى:4/317].

حسناً .. لا شك أن محمد وإبراهيم الخليلين صلى الله عليهما وآلهما وسلم هما أعظم شخصين في تاريخ البشرية، فلننتقل الآن إلى جوهر الموضوع: متى التقيا؟ وأين كان موقع الاجتماع؟ وما موضوع الاجتماع الذي دار الحوار بينهما على أساسه؟ التقى محمد بإبراهيم صلى الله عليهما وسلم لما أسري برسول الله ثم عرج به إلى السماء السابعة؛ حيث جاء في صحيح البخاري في قصة الإسراء والمعراج:  «ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت من هذا؟ قال: هذا إبراهيم» [البخاري:3342]. وجاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بإبراهيم، وإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور، والله أعلم.

وأما الموضوع الذي دار بينهما، والقضية التي فتحت في الاجتماع، والرسالة الهامة التي أراد إبراهيم إيصالها لأمة محمد: فقد رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة من الصحابة منهم ابن مسعود، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وابن عباس.

واستمع إلى هذه الرواية التي رواها هؤلاء الصحابة عن قصة اجتماع أهم شخصيتين في العالم.. والموضوع الذي تركّز الاجتماع عليه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»(الترمذي [3462] ، أحمد [23552] ، وغيرهم) ]. والحديث حسنه الترمذي [ح3462] ، وحسّنه ابن حجر في [نتائج الأفكار: 1/101، تحقيق السلفي، مكتبة ابن تيمية]، واستشهد بهذا الحديث ابن رجب وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم كما سيأتي. ولبعض الأئمة المتقدمين كلام عن بعض طرقه كما في [العلل لابن أبي حاتم: 5/309، إشراف د.الحميد].

حسنًا، لا يمكن أن يمر القارئ بهذا الحادثة في اجتماع محمد وإبراهيم الخليلين صلى الله عليهما وسلم في السماء ليلة الإسراء إلا وتستولي عليه الدهشة من هذا الأمر الذي اهتم به إبراهيم الخليل وطلب من نبينا محمد صلى الله عليهما وسلم- أن يوصله لنا.

بمجرد أن يقرأ المسلم قول أبينا إبراهيم (يا محمد أقرئ أمتك مني السلام) فإنه يشعر بشيء من حنين الانتماء والصلة، إنه أبونا إبراهيم مهتم بنا، ويوصل سلامه لنا عبر محمد صلى الله عليهما وسلم. إنه أبونا إبراهيم يسلم علينا، وهو أبونا بنص القرآن {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وفي معنى الأبوة هاهنا أقوال ذكرها أهل التفسير.

أي إحساس بالأهمية والمكانة يشعر به المسلم وهو يقرأ أن إبراهيم خليل الله مهتم بالسلام عليه؟! وثمة بعد آخر في منزلة هذه الوصية وهي أن إبراهيم الخليل –صلى الله عليه وآله وسلم- رجلٌ ارتحل الآن إلى ربه .. وهو الآن أخبر ما يكون بأنفع شيء لمن لم يمت بعد، فتخيل أن رجلاً ذهب إلى الله، ثم يرسل لك وصية بعد أن انتقل عن الدنيا؟ فكيف ستكون أهمية وصيته؟

فهذا إبراهيم أعلم الناس بالله بعد نبينا يرسل لنا وصيةً بعد موته وارتحاله عن هذه الدنيا، إنها وصية قادمة من رجل سبقنا في الرحلة إلى المستقبل الأبدي، فكأنها وصية قادمة من المستقبل الذي سنؤول إليه. وماذا كانت هذه الوصية: إنها الوصية بأمور تبني لك موقعًا في الجنة: "يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"

فإبراهيم الآن يتحدث عن الجنة حديث من غادر الدنيا، ويخبر أن الجنة أرضها طيبة مباركة، ومياهها عذبة حلوة. وأن الله خلق فيها مساحات مستوية لا نبات فيها، فهي قيعان، لكي يغرس المؤمن فيها أشجاره بقوله "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

هذا إبراهيم الخليل الذي آل إلى ربه يريد من محمد صلى الله عليهما وسلم أن يخبرنا نحن بهذه المعلومة، إبراهيم يريد منا أن نستثمر الفرصة طالما أننا مازلنا في هذه الدنيا فنستكثر من الغرس في الجنة قبل أن نقدم على الله!

تخيل أنك تقول الآن سبحان الله .. فتغرس لك شجرة في جنات عدن؟!

وتخيل أنك تدلّ صديقًا أو قريبًا على فضل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فكلما قالها هذا الصديق أو القريب، غُرِست له شجرة في الجنة، وغُرست لك مثلها، كما في صحيح مسلم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (صحيح مسلم [1893]). فربما كنت نائمًا أو تتناول طعامك أو منهمكًا في عمل، والله يغرس لك في الجنة بسبب أقوامٍ دللتهم وذكّرتهم فتفطنوا للذكر.

وقد بوّب على هذا الحديث العظيم الإمام ابن القيم في منظومته المتلاطمة (الكافية الشافية) المشهورة بالنونية فقال (فصلٌ في أن الجنة قيعان، وأن غراسها الكلام الطيب والعمل الصالح).
ونظم فيها ابن القيم تحت هذا الفصل أبياتاً مستمدة من هذا الحديث فقال:

أو ما سمعت بأنها القيعان فاغْــرِس*** ما تشاء بذا الزمان الفاني
وغراسها التسبيح، والتكبير*** والتحميد، والتوحيدُ للرحمنِ
تباً لتاركِ غرْسِه ماذا الذي *** قد فاته من مدة الامكان
يا من يقر بذا ولا يسعى له ** بالله قل لي كيف يجتمعان؟
أرأيت لو عطلت أرضك من غرا سٍ*** ما الذي تجني من البستان؟

[الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: ص 395، طبعة ابن خزيمة، تحقيق العمير]

وجعل ابن القيم هذا الحديث دليلاً لأحد فوائد الذكر، كما يقول ابن القيم في كتابه الوابل الصيب في فوائد الذكر (الفائدة الثانية والثلاثون: أن الذكر غراس الجنة).

ومن أطرف النظرات والتأملات في هذا الحديث العجيب أن الإمام النووي (676هـ) اعتبر أنه صارت لأهل الحديث رواية متصلة السند إلى النبي إبراهيم، فإن أهل الحديث يروون هذا الحديث عن الصحابة، والصحابة يروونه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد يرويه عن إبراهيم الخليل!

كما يعبّر النووي عن هذه النظرة بقوله: "وقد من الله الكريم علينا وجعل لنا رواية متصلة، وسبباً متعلقاً بخليله إبراهيم -عليه السلام- كما من علينا بذلك فى حبيبه وخليله وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم" [تهذيب الأسماء واللغات:1/100، الطبعة المنيرية]. ثم ساق النووي بإسناده هذا الحديث السابق مروراً بالترمذي.

والحقيقة أن التركيز في النظر إلى هذا المعطى، أي كون هذه الوصية من خليل الله إبراهيم لم يكن غائباً عن كثير من أهل العلم؛ حتى أن الإمام ابن رجب يقول: "وصلت إليكم معشر الأمة رسالةٌ من أبيكم إبراهيم، مع نبيكم محمد عليهما السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرىء أمتك السلام وأخبرهم: أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» [ابن رجب، لطائف المعارف:120، تحقيق السواس، دار ابن كثير].

فلعلك قد لاحظت أن النووي وابن رجب سلطا الانتباه على كون هذه الرسالة والوصية قادمةٌ إلينا من أبينا إبراهيم الخليل، وينقلها عنه محمد صلى الله عليهما وسلم، والمستهدف في هذه الوصية والمرسل إليه في هذه الرسالة هو نحن، أي اهتمام بنا بذله هذين النبيين الكريمين على الله!

على أية حال، هل تتوقع لو اجتمع اليوم اثنان من المفكرين العرب أن يكون اجتماعهم معنيًا بقضية (ذكر الله) كما اهتم بها أعظم رجلين في تاريخ البشرية في اجتماعهما في السماء السابعة؟! لا أظن ذلك، ويبهجني أن أكون مخطئًا.

النهضة والتقدم والتطور والرقي في ميزان الأنبياء يختلف كثيرًا عن الموازين المادية المعاصرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.

إبراهيم السكران

بكالوريوس شريعة- ماجستير سياسة شرعية-جامعة الإمام- ماجستير قانون تجاري دولي-جامعة إسكس-بريطانيا.

  • 38
  • 0
  • 25,248

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً