صيود الأوراد(13): بين خُلُودَيْن!
إن أحدنا يقرأ الآية عقودا من الزمان ما تستوقفه لفظة، وإذا به في لحظة صفاء تفتح له عن كنز فيها.. وكأنه لم يقرأ من قبل.. وهو كذلك فعلا، لم يقرأها من قبل قراءة تدبر في حالة صفاء.. وكذلكم حدث لي هنا، وهي أولا وآخرا من فتوحات الله، ولكن من باب السبب فإن هذا يدل على أن بُعدنا عن كثير من معاني القرآن ليس صعوبة ألفاظها ولا غرابة تراكيبها، ولا ما تحتوي عليه من غيبيات، وإنما لقلة التدبر والوقوف عند الآيات.. لا نعقد معها جلسات كما نعقدها مع أصدقائنا نقلب وإياهم وجوه الألفاظ، ونرى ما فيها لنا أو علينا..
كنت جالسا في المسجد أقرأ القرآن، فاقترب منى شيخ في الستينات من عمره؛ كان يقرأ بجواري، فأراني قولَه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ النساء}13- 14]]، يقول: لماذا قال مع المؤمن{خالدين}، ومع الكافر {خالدًا}؟.. هكذا قالها الشيخ السائل، وقد أفرد لفظ المؤمن والكافر!
فأعجبني سؤاله، وخاصة أنه من مثله، ما شاء الله، إنه يتدبَّر.
ثم سرعان ما أجاب بنفسه، وكأنه يعرض عليَّ نتيجة تَدبُّرِه، فقال: قال مع المؤمن {خالدين}، لأن معه رقيبٌ وعتيد يدخلون معه الجنة، فهم جماعة، أما العاصي فلا يدخل معه رقيب وعتيد النار، فهو وحده خالد.
فقلت لا، يظهر والله أعلم أن من تمام النعيم والسعادة والحبور وجود جماعة يُحشَر معها الإنسان ويحيى بينها ويأنس بها ويتزاور معها ويشاركها النعيم، ما بالك أنهم: أحسن الرفيق؟!
وأن أهل الجنة كونهم بهذا الوصف فخلودهم يجمعهم، وتأمل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69]، فكأنه جعل جزاء طاعة الله وطاعة رسوله دخوله في زمرة هذا الرفيق الحسن من خيار المؤمنين.
وفي الآية الأخرى يقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 146]. فكأن جزاء التوبة والإصلاح وإخلاص الدين لله تعالى هو الكَوْن مع المؤمنين، وإنه لكذلك!
وفي الأخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور:21]، {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ}[يس: 55-56].
أما أهل العصيان فهم مُفْتَرِقُون مُتَفَرِّقُون، مَشْغُولٌ كل واحد عن غيره بنفسه، أذهلُ من مرضعة عما أرضعت، فهو خالد لوحده، لا يشعر بمعية غيره، فكأنما كل عاصٍ خالد لوحده، ثم هو لا يستحق الأنس، فإفراده زيادة في عذابه.
كذلك قد يكون منه أن خلود المؤمنين واحد أبدي، من أعلى درجات الجنة إلى أدناها، كلها يُطلق عليه خلود باعتبار الاستمرار، أما أهل العصيان فالكافر بعصيانه خلوده أبدي؛ خالد مخلد أبد الآبدين، فخلود الشخص خاص به، ومن أهل العصيان عصاة الموحدين وأهل الكبائر والموبقات، كقاتل النفس المؤمنة ظلما وعدوانا، خالد في النار، لكنه خلود يطول فيه المكث، وليس أبديًّا، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]، فهو خلود يخصه وكأنه فيه وحده.
ثم ما هدأت نفسي، فطفقت أتتبع التفاسير حولها، فمما وجدت: (ووثب أبو السعود العمادي مفتي القسطنطينية في تفسيره إلى أوج الذكاء عندما قرر بإلهام موفق أن نكتة الافراد في قوله {خالدا} فيها الإيذان بأن الدخول في دار العقاب بصفة الانفراد أشد في استجلاب الوحشة، أما مجالس الجنة فهي بين الأخلاء والأحباء والاجتماع أدعى إلى تبديد الوحشة)[إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش المتوفى1403هـ].
وفي تفسير المنار لرشيد رضا يقول: (وقد اختار الأستاذ في نكتة ذلك أن في ذكر أهل الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى تمتعهم بالاجتماع، وأنس بعضهم ببعض، والمنعم يسره أن يكون مع غيره، قال المعري الحكيم:
ولو أني حُبِيتُ الخلد وحدي ... لما أحببت بالخلد انفرادا
وأما من قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار فإن له من العذاب ما يمنعه عن الأنس بغيره، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسا، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد، والتعبير بلفظ خالدا يشير إلى ذلك، ويؤيد هذا المعنى الذي اختاره شيخنا قوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}[الزخرف:43]) [رشيد رضا، تفسير المنار].
هذا مِن أفضل ما اطمأنت إليه النفس، وإن جاءت بعض الأقوال الأخرى، منها قولهم: فإن قيل: كيف جمع {خَالِدِين} في الطائعين، وأفرد خالداً في العاصين؟ فالجواب: قالوا: لأنَّ أهلَ الطَّاعة أهلُ الشَّفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هو والمشفوُعُ لهم ناسب ذلك الجمع، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرهُ النارَ، فناسَبَ ذلك الإفرادُ. وأفرد خالدا فى أهل النار وجمع فى أهل الجنة لأن الانفراد وحشة وعذابا للنفس وذلك انسب بحال اهل النار)[روح البيان، الخلوتي].
وهناك لفتة أخرى رائعة أيضًا من زاوية أخرى، وهي أن الخطاب كان مفردًا في التكليف الدنيوي للناس كلهم من ربِّهم الواحد سبحانه: {ومن يطع الله}، {ومن يعص الله}، ليشعر الطائع والعاصي كلاهما بالمواجهة الخاصة والخطاب المباشر وتحميله المسؤولية المباشر والخاصة الفردية عن تصرفاته من طاعة أو معصية، حتى لا يتَّكل على أخطاء الجمع لينغمر فيها أو صلاح الجمع فيركبه ويُحمل عليه.. وحتى لا يقع فى شعوره أن هذا الخطاب العلوي متجه إلى غيره! مما يجعله يحزم أمره ويُحسن في تلقيه وتنفيذه للخطاب الإلهي.
بينما في الآخرة فيختلف الأمر، ويختلف الطائعون والعصاة، فأما {من يطع الله} فإنه هنا في حال ينعم فيها بنعيم الله، ويأنس بألطافه.. ومن تمام نعيم الله هنا، ومزيد ألطافه، أن يجد الإنسان نفسه بين لدات وإخوان، يشاركهم هذا النعيم، وتلك الألطاف، وأن ينظر هذا النعيم وتلك الألطاف التي تغمر كيانه، قد تجسدت على وجوه إخوانه، فأصبحت بشرا، وحبورا، فيزداد لذلك بشره وحبوره..
وأما العصاة فانظر كيف كان الخطاب من الله- سبحانه وتعالى- مفردا، قبل النار وبعدها. خارجها وداخلها.. حيث يقول جل شأنه {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ}، إن الإنسان هنا يواجه وحده بهذا الوعيد من رب العالمين، حتى لكأنه هو الوحيد الذي انفرد من بين الناس بالشرود عن طريق الحق، والعصيان لله ورسوله .. ثم ها هو ذا يَلْقَى مصيره المشئوم وحده.)[انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب، ت1390هـ، 2/815- 818].
أيُّ الخلودَيْنِ تريد؟!
خلود أهل العصيان الموغل في الضلال والبعد عن صراط الله، حيث الذين تتقطع بهم السباب وتنقطع بينهم الأنساب، أم خلود أصحاب صراط الفذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..
لا شك انك تحب خلود الأجمعين، خلود المؤمنين، فما طريق الخلود؟!
دعوة إلى الاجتماع.. دعوة إلى الخلود
إن الاجتماع على طاعة الله تعالى في الدنيا هو طريق الخلود الجماعي في جنات عدن، ولا يكون ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله على مراد الله تعالى والتمسك بسنة رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103]. وقوام ذلك { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}، و{ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. فلا بد من الاعتصام بجبل الله المتين قولا وعملا واعتقادا، ولا بد من التزام جماعة المؤمنين، ولا تعدو عيناك عنهم فإن دعوهم سياجٌ حام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « م » (ابن ماجة في سننه برقم:[ 3056]، وأحمد في مسنده برقم:[ 21590]).
4/ 3/ 2016
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: