سقوط الأندلس دروس وعبر - (5) ضرورة استقراء الحوادث التاريخية

منذ 2016-03-06

إن البحث في البواعث والمقاصد، والكيفيات التي تحكم السقوط والنهوض، وسنن التدافع البشري الموصلة إلى التحولات التاريخية والتداول الحضاري، ما يزال بعيدًا عن الذهنية المسلمة، إلا من بعض المحاولات الفردية غير المتأصلة هـنا وهناك، والتي غالبًا ما تأتي نتيجة ردودٍ لفعل الآخرين، وصدى لمحاولاتهم، وعلى أحسن الأحوال تأتي محكومة بمناهجهم ووسائلهم في النظر والبحث، الأمر الذي لا يخرج في النهاية عن أن يكون ثمرة لثقافاتهم، أو لتشكيلهم الثقافي، بعيدًا عن النسق المعرفي والفلسفي الإسلامي، أي: ثمرة لشاكلتهم التي يعملون عليها.

نستطيع أن نقول بدون أدنى تحفظ: إنه على الرغم من الدعوة للسير في الأرض، وأهمية اكتشاف السنن الفاعلة في الحركة التاريخية، ودور هـذا الاكتشاف في البناء الحضاري، وحسن القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، والمسؤولية الشرعية، أو الأمر الشرعي في ذلك الذي يمكن أن يصنف في إطار الفروض الكفائية الغائبة عن حياة المسلمين اليوم، مع هـذا كله لم تأخذ الحادثة التاريخية، لا على مستوى التاريخ الخاص بالأمة المسلمة -الاعتبار بتجربتها- ولا على مستوى التاريخ العام -الاعتبار برصيد التجارب العالمية- الفقه، والتفسير، والتحليل المطلوب للذهنية الإسلامية المعاصرة، وغالبًا ما اقتصر علم التاريخ عند المسلمين على حفظ الحوادث، والأمانة في نقلها، وتسجيلها، وضوابط منهج النقل وأدواته. وهذا العمل على أهميته وضرورته، يبقى في إطار تشكيل مقدمة العلم، والظواهر التي لا بد من النظر فيها للخلوص إلى العلم الذي ينتظم حوادثها، ويربط بين متفرقاتها، حيث أن الأهم هـو القدرة على استقراء الحوادث، واكتشاف القانون والسنن التي تحكمها، ليتمكن بذلك الإنسان من إدراك سيرورة الاجتماع البشري، واستشراف المآلات المستقبلية للمقدمات الموجودة، بعيدًا عن التكهن والتخمين والظن، ويدرك المدى الممكن من المداخلة وتحويل المسار والتعديل بالمقدمات في الوقت المناسب، في محاولة للتحكم بالنتائج، والتبصر بالعواقب، وعدم تكرار الخطأ في تجارب مماثلة.

إن البحث في البواعث والمقاصد، والكيفيات التي تحكم السقوط والنهوض، وسنن التدافع البشري الموصلة إلى التحولات التاريخية والتداول الحضاري، ما يزال بعيدًا عن الذهنية المسلمة، إلا من بعض المحاولات الفردية غير المتأصلة هـنا وهناك، والتي غالبًا ما تأتي نتيجة ردودٍ لفعل الآخرين، وصدى لمحاولاتهم، وعلى أحسن الأحوال تأتي محكومة بمناهجهم ووسائلهم في النظر والبحث، الأمر الذي لا يخرج في النهاية عن أن يكون ثمرة لثقافاتهم، أو لتشكيلهم الثقافي، بعيدًا عن النسق المعرفي والفلسفي الإسلامي، أي: ثمرة لشاكلتهم التي يعملون عليها.

فالتاريخ بدون إدراك السنن والقوانين التي حكمت حركته، يبقى فعلًا ماضيًّا لا يمكن استعادته، وإعادة التحكم في تركيبته وترتيبه من جديد، لكن تتحدد أهميته بامتلاك القدرة على نقل عبرته للحاضر الذي يمكِّن من رؤية المستقبل، أو بمعنى آخر: إن الشهود التاريخي لا قيمة له إذا لم يمكِّن من شهود الحاضر (الشهود الحضاري)، وإبصار المستقبل (الشهود المستقبلي)، وتلك لوازم يترتب بعضها على بعض.

وهذا الواقع الثقافي المحزن، إذا انطبق على تاريخنا بشكل عام، فإنه أشد ما يكون وضوحًا في تاريخنا في الأندلس بشكل خاص، حيث لا تزال الأندلسيات المأساوية تتكرر هنا وهناك، ويتحدد نصيبنا من ذلك في امتلاك العَبْرَة وفوات العِبْرَة.

فالتاريخ هـو المختبر الحقيقي للعقائد والأفكار والشعارات والأفراد والأمم، وبيان قدرتها على التعامل مع تلك العقائد والأفكار، وترجمتها إلى واقع، وتمكينها من التفسير والتحليل التاريخي، وهو الذي يمكنها من قراءة واقعها ووضعه في موضعه المقارب له من المسيرة التاريخية، كما يمكنها من التطلع إلى صناعة مستقبلها.

وفي اعتقادنا أن المحاولات التي سُبقنا إليها في مجال الدراسات التاريخية -والتاريخ يعتبر الأب الشرعي لعلم الاجتماع- واكتشاف السنن والقوانين التي تحكم وتتحكم بحركة المجتمع البشري، هـي التي أوصلت الآخرين إلى تأسيس وتأصيل علم الاجتماع وبلورته كعلم أصبح اليوم من أهم العلوم وأخطرها في دراسة أحوال الأمم، وعوامل تغييرها وتغيرها، ورسم المداخل الصحيحة للتعامل معها، سواءً كان ذلك في إطار الغزو الفكري والاستلاب الحضاري ، أو في مجال التبادل المعرفي ، وإيجاد القواسم والصيغ المشتركة للتعامل.. وقد تكون المشكلة الكبيرة في الذهول عن هـذا المنحى، وتوقفه في العقل المسلم المعاصر، على الرغم من التكليف الشرعي بالسير في الأرض، واستقراء أحوال الأمم السابقة، وتحقيق المعرفة التي تمكن من اكتشاف آلية السقوط والنهوض، والقوانين التي تحكم الاجتماع البشري، وجعل ذلك من فروض الكفاية كما أسلفنا.

وبالإمكان القول: إننا لم نفقه بعد المغزى فيما عرض له القرآن الكريم من القصص، التي تسع التجربة البشرية من لدن آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم ، وما طرحه من أسباب وسنن مادية، وفكرية، ونفسية، وإيمانية للنهوض، والسقوط، والانقراض، والتقطيع في الأرض، وشروط استعادة العافية في دورات التداول الحضاري، مما يمكن أن يشكل القوانين اليقينية للحركة الاجتماعية، ويضع الأصول الأساسية لعلم الاجتماع.. إنَّ هذا الفقه التاريخي ، أو الفقه القرآني ، لم يأخذ البعد المطلوب، ولم يحملنا إلى الإفادة من تلك المختبرات الإنسانية في القصص القرآني التي تتساوى في نتائجها اليقينية مع النتائج المختبرية في العلوم التطبيقية.. تلك القوانين التي يستحيل تحصيلها من قراءة الحاضر، الذي يبدو متقلبًا ومتناقضًا من خلال حركته السطحية السريعة.. إن غياب هـذا الفقه، كان وراء تخلفنا في سائر العلوم الاجتماعية التي تمثل في الحقيقة الجسر الذي تعبر من خلاله الغلبة الحضارية. 

المصدر: كتاب الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم جذورها ومسارها، للدكتور على المنتصر الكتاني
  • 3
  • 3
  • 4,315
المقال السابق
(4) الحقيقة التاريخية لإسبانيا
المقال التالي
(6) أهمية دراسة التاريخ ونقده

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً