[15] مقاصد سورة التوبة
سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب السور القرآني الكريم. وهي من ضمن السور التي تسمى بـ (المئين)، وهي سورة مدينة بالإجماع، وعدد آياتها تسعون وعشرون ومائة آية. وهي من آخر السور المدنية الطوال نزولاً. وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لم تبدأ بآية البسملة.
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
تعريف بسورة التوبة
سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب السور القرآني الكريم. وهي من ضمن السور التي تسمى بـ (المئين)، وهي سورة مدينة بالإجماع، وعدد آياتها تسعون وعشرون ومائة آية. وهي من آخر السور المدنية الطوال نزولاً. وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لم تبدأ بآية البسملة.
أسماؤها
تعددت أسماء هذه السورة، وقد ذكر ابن عاشور في تفسيره، أن لها أربعة عشر اسماً، هي: التوبة، براءة، المقشقشة، الفاضحة، العذاب، المنقرة، البحوث، الحافرة، المثيرة، المبعثرة، المخزية، المشددة، المدمدمة.
والاسم الأشهر لهذه السورة {بَرَاءَةٌ} [التوبة من آية:1]؛ فقد سميت بهذا الاسم في أكثر المصاحف، وجاءت هذه التسمية عن كثير من السلف. ففي (صحيح البخاري)، عن زيد بن ثابت، قال: "آخر سورة نزلت سورة براءة". وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه. وسبب هذه التسمية أن أول كلمة وردت في هذه السورة هي كلمة {بَرَاءَةٌ} [التوبة من آية:1]. ويمكن أن يقال: إنها سميت بذلك؛ لأنه سبحانه ذكر فيها براءته من المشركين.
وسميت (التوبة)، جاءت هذه التسمية في أقوال بعض الصحابة رضي الله عنهم، من ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: "سورة التوبة هي الفاضحة". وترجم لها الترمذي في جامعه باسم (التوبة)؛ لأن الله سبحانه ذكر فيها توبة الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك. وكتبت بهذا الاسم في المصاحف أيضاً.
وجاء هذان الاسمان في حديث زيد بن ثابت في (صحيح البخاري)، قال رضي الله عنه: "فتتبعت القرآن، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة من الآية:128]، حتى خاتمة سورة براءة". وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف.
وسميت (الفاضحة)؛ لأنها فضحت أمر المنافقين، وكشفت مؤامراتهم ودسائسهم. روي عن سعيد بن جبير، قال: "قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟، قال: "التوبة! بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل: {وَمِنْهُم} حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ذُكر فيها".
وسميت (العذاب)؛ لأنها وعدت الكافرين بالعذاب الأليم. أخرج الطبراني في (الأوسط) عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "التي تسمون سورة التوبة، هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه، ولا تقرؤون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها"، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وسميت (المنقِّرة)؛ روي عن عبيد بن عمير أنه سماها (المنقِّرة) بكسر القاف المشددة؛ لأنها نقَّرت عما في قلوب المشركين من نوايا الغدر بالمسلمين، والتمالؤ على نقض العهد، وهو من نقر الطائر، إذا أنفى بمنقاره موضعاً من الحصى ونحوه ليبيض فيه.
وسميت (المقشقشة)؛ روي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "سورة التوبة؟"، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: "وأيتهن سورة التوبة؟"، فقال: "براءة"، فقال ابن عمر: "وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي، ما كنا ندعوها إلا المقشقشة".
و(المقشقشة): بصيغة اسم الفاعل، وتاء التأنيث من قشقشه: إذا أبراه من المرض. كان هذا لقباً لهذه السورة ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تخلِّصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص؛ ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.
وسميت (البَحوث)، أخرج الحاكم عن المقداد رضي الله عنه أنه قيل له: لو قعدت العام عن الغزو، قال: "أتت علينا البَحوث - بفتح الباء -: يعني براءة" الحديث، قال الهيثمي: "فيه بقية بن الوليد وفيه ضعف، وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات"، و(البَحوث) بوزن فعول بمعنى الباحثة.
وسميت (الحافرة)، روي عن الحسن البصري أنه دعاها (الحافرة)، كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق، فأظهرته للمسلمين.
وسميت (المثيرة)، روي ذلك عن قتادة؛ لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها.
وسميت (المبعثرة)، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين، أي: أخرجتها من مكانها.
وسميت (المخرية)، ذكر ذلك السيوطي في (الإتقان)؛ وسبب هذه التسمية قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة من الآية:2].
وسميت (المشدِّدة)، ذكر ذلك السيوطي في (الإتقان) ولعل مأخذ هذه التسمية، قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة من الآية:73].
وسميت (المدمدمة)، روي عن سفيان الثوري أنها تسمى (المدمدمة)، بصيغة اسم الفاعل من دمدم، إذا أهلك؛ لأنها كانت سبب هلاك المشركين.
ما جاء في فضل السورة
ذكر ابن رجب أن عبد الله ابن الإمام أحمد، وسعيد بن منصور أخرجا عن أُبيٍّ رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {بَرَاءَةٌ} [التوبة من آية:1] يوم الجمعة".
وقد ورد في فضل الآيتين الأخيرتين من هذه السورة ما رواه أبو داود موقوفاً وابن السني عن أبي الدرداء مرفوعاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة من الآية:129] ».
مقاصد السورة
قال ابن عاشور: "افتتحت السورة كما تفتتح العهود وصكوك العقود بأدل كلمة على الغرض الذي يراد منها، كما في قولهم: هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثقين: باع، أو وكَّل، أو تزوَّج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها". وبالفعل فإن هذه السورة ابتدأت حديثها بإعلان البراءة من أفعال الكافرين، وأعلنت المفاصلة بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الإيمان وأهل الشرك، وأهل الإسلام وأهل النفاق.
هذا من حيث فاتحة السورة، وتحديد هدفها العام، ثم وراء ذلك تضمنت السورة مقاصد أُخر، نذكر منها:
- معاداة من أعرض عن اتباع الداعي إلى الله في توحيده، واتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه. يدل على هذا المقصد: قصة الثلاثة المخلَّفين، فإنهم هُجروا، وأُعرض عنهم بكل اعتبار، حتى بالكلام وبالسلام، إلى أن تاب الله عليهم.
- تضمنت السورة من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى الكثير؛ وذلك لتذكير تالي القرآن وسامعه المرة بعد المرة بربه وخالقه، وما هو متصف به من صفات الكمال، الذي يثمر له زيادة تعظيمه وحبه والرجاء في رحمته وإحسانه، والخوف من عقابه، لمن أعرض عن هداية كتابه، أو خالف حكمته وسننه في خلقه، وهذا أعلى مقاصد القرآن، في إكمال الإيمان، وإعلاء شأن الإنسان.
- تقرير عدة عقائد من أصول الإيمان، وكمال التوحيد، وحصول اليقين، جُمعت كلها في آية واحدة من هذه السورة، وهي قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]. فالمؤمن يعتقد أن الله تعالى هو مولاه الذي يتولى نصره وتوفيقه; فهو بمقتضى إيمانه يتوكل عليه ويفوض أمره إليه.
- بيان أن من مقتضى الإيمان الصحيح، تحري المؤمن إرضاء الله ورسوله معاً; ذلك بأن كل ما يرضي رسوله صلى الله عليه وسلم يرضي الله سبحانه، فرضا الله ورضا رسوله متلازمان، لا ينفكان، ولا يقبل إيمان عبد من غير اجتماعهما.
- بيان علو مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناية الله تعالى به وحفظه ورعايته وتكريمه وتأديبه وتكميله إياه.
- حظر التخلف عن هديه صلى الله عليه وسلم وسنته، والرغبة بالنفس عن نفسه، وبيان أن كل من يصون نفسه عن جهاد وعمل، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه فيه، فهو مفضل لنفسه على نفسه الكريمة في عهده، ومن ثم فإنه ينبغي لكل مؤمن أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم في بذله ماله ونفسه لله والجهاد في سبيل الله بقدر إمكانه.
- تقرير أن دين الإسلام هو نور الله تعالى العام، وهداه الكامل التام، الذي نسخ به ما تقدمه من الأديان، ووعد الله عز وجل بإتمامه، وخذلان مريدي إطفائه.
- بيان أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هما مدخل الإسلام ومفتاحه وما يتحقق به، وهو قوله تعالى في المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة من الآية:11].
- بيان أن بناء الإسلام على العلم الصحيح، دون التقليد الذي ذمه القرآن، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا} [التوبة من الآية:31].
- التأكيد على المساواة بين الرجال والنساء في ولاية الإيمان المطلقة ، في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا} [التوبة من الآية:71]. والمساواة بينهما في جميع نعيم الآخرة تبعاً للمساواة في التكليف، يفهم ذلك من قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
- كون بذل الأموال في سبيل الله آية الإيمان الصحيح وقِوام الدين الحنيف، وفضل النفقة في الجهاد قلَّت أو كثرت، وكون الجزاء عليها أحسن الجزاء. وكون البخل والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله آية الكفر والنفاق.
- بيان فوائد الزكاة المفروضة والصدقات، وإصلاح الإسلام النظام المالي للبشر، وامتيازه بذلك على جميع الأديان.
- إعلان البراءة من المشركين، لدفع المفاسد المترتبة على بقائها.
- التأكيد على أهمية الجهاد في سبيل الله؛ لنشر دينه، وقتال من يقف في وجه دعوة الإسلام، وتوعد الذين يتقاعسون عن الجهاد بحياة الذل والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
- عقد المعاهدات مع الدول والأمم من حقوق الأمة، لها غُنْمها، وعليها غُرمها، وإنما يعقدها الإمام أو نائبه من حيث إنه هو الممثل لوحدة الأمة. ووجوب الوفاء بالمعاهدة ما دام الطرف الآخر من الأعداء يفي بها، ولا ينقص منها شيئاً.
- بينت السورة أن الهدنة بين المسلمين ومن حاربهم مشروعة، وللمسلمين أن يبدؤوا بها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك.
- تأمين الحربي، بالإذن له بدخول دار الإسلام جائز للمصلحة، فإذا استأمن لأجل سماع كلام الله، أو الوقوف على حقيقة الإسلام، وجبت إجارته ثم إبلاغه مأمنه عند الخروج من دار الإسلام.
- ذم القرآن للكفار والمنافقين، ونزاهته في ذمهم عن السب والشتم، ووصفهم بأنهم لا يرقبون ولا يراعون في أحد من المؤمنين قرابة ولا عهداً، وأنهم يصدون عن سبيل الله، وأن أكثرهم فاسقون، وأنهم هم المعتدون، وأشد ما وصفهم به أنهم رجس، وأنه كلما نزلت سورة من القرآن زادتهم رجساً إلى رجسهم، حتى ماتوا على كفرهم.
- بيان سياسة الإسلام في التعامل مع المنافقين، وأن من أظهر الإسلام منهم يعامل كما يعامل سائر المسلمين؛ لأن قاعدة الإسلام في هذا الصدد: أن الحكم على الظواهر، وأن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب، ويعاقب على السرائر.