[88] الدنيا عرض زائل
لا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابًا من الله ورضوانًا.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
عباد الله، عنوان سعادة المرء ودلائل توفيقه إنما يكون في إنابته لربه؛ واستقامته على شرع الله ودينه؛ وإقباله على الله تعالى؛ بنية خالصة وعبودية صادقة؛ في كل حالاته، وأن لا تشغلُه الحياةُ الدنيا والسعيُ في تحصيل ما يؤمِّل منها عن الاستعداد للحياة الباقية والتزود للدار الآخرة، فذلك سبيل الصالحين، ونهج المتقين ممن وصفهم الله عز وجل في محكم التنزيل بقوله: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
فإن هؤلاء الصالحين على الرغم من اشتغالهم بالبيع والشراء، وما يحتاجون من عرض الدنيا، إلا أن ذلك لم يكن حائلاً بينهم وبين استحضار عظمة الله جل جلاله، استحضارًا يحمل على تقوى الله عز وجل وخشيته على الدوام، والقيام بعبوديته حق القيام، وهكذا شأن المؤمن حقًا، يغتنم أيام العمر وأوقات الحياة بجلائل الأعمال الصالحة، ويبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة؛ لعلمه أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا وسيلة للفوز بالحياة الباقية والظفر بالسعادة الدائمة، لا أنها غايةٌ تبتغى، ولا نهايةٌ ترتجى، بل إنما هي عَرَضٌ زائل، يأكل منها البر والفاجر، وأنه مهما طال فيها العمر، وفُسِح فيها للمرء الأجل، فسرعان ما تبلى، وعما قريب تفنى، وليس لها عند الله شأن ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار، يقول عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها".
وإن في هذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية – يا عباد الله -؛ لأبلغَ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله جل وعلا، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، غير أن من عظيم الأسف أن يظل الكثيرون منا في غفلة وتعامٍ عن ذلك؛ حتى غلب عليهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، وكأن لا حياة لهم إلا الحياةَ الدنيا. وإذا استولى حب الدنيا على قلب المرء أنساه ذكر ربه؛ وإذا نسي المرء ذكر ربه أنساه تعالى نفسَه؛ حتى يوردَه مواردَ العطب والهلاك.
وكم من المجتمعات المسلمة – يا عباد الله – من طغى عليهم حب الدنيا؛ فاستجابوا لداعي الهوى، والنفس الأمارة بالسوء والفحشاء؛ حتى أدى بهم ذلك إلى اقتراف المنكرات، يساعد على ذلك ويذكيه في نفوسهم واقعُ الإعلام المعاصر، وما تبثه وسائل الاتصال وكثير من القنوات، مما فيه تزيين للباطل. وما أوقعهم في ذلك إلا طغيانُ حبِّ الدنيا على نفوسهم حتى آثروها على الآخرة. وهذا الداء – يا عباد الله – هو الذي أودى بأمة الإسلام في عصورها المتأخرة إلى ما هي عليه الآن من ضعف وهوان، وتفرق ونزاع؛ حتى تحكم الأعداء في كثير من قضاياها، واستحوذوا على كثير من خيراتها، واستولوا على بعض بلادها، وساموا بعض الشعوب المسلمة سوء العذاب، وألحقوا بهم أصنافًا من النكال.
وإن ما يحدث الآن على أيدي اليهود الغاصبين، والشرذمة المفسدين، ضد إخواننا المستضعفين في الأرض المباركة فلسطين، من عدوان أثيم على الأنفس والأموال والحرمات، وتدنيس المقدسات – ولا سيما المسجد الأقصى المبارك – أولى القبلتين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال: إنما مرد تلك الاعتداءات إلى خبث اليهود ومكرهم والذي واجه ضعفًا من المسلمين، ضعفًا من أعظم أسبابه حال كثيرين من أمة الإسلام من الإقبال على الدنيا؛ والزهد في الآخرة؛ والإعراض عن طاعة الله ورسوله؛ حتى ابتلينا بهؤلاء الأعداء الحاقدين، الذين استهانوا بنا، واسترخصوا دماءنا وحرماتنا، وهذا مصداق لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن وقوعه في الأمة، حين تقبل على الدنيا؛ وتخلد إليها؛ ويَضْعفُ تمسكها بدين الله، وتدع الجهاد في سبيل الله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح أبي داود: 3462].
وشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصتعها، قال: قلنا: «
» [صحيح أبي داود: 4297].نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمدهم بالعون والتوفيق. نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابًا من الله ورضوانًا، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
فلتحذروا – عباد الله – من التمادي في الغفلة والإعراض عن الله، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلقد ندد الحق جل وعلا بالغافلين، وأشاد بالمتقين الذين جانبوا هوى النفس، وعملوا للدار الآخرة، فقال سبحانه مبينًا حالَ كلَّ فريقٍ وجزاءَه: {فَأَمَّا مَن طَغَى .وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41].
أفلا نتعظ – يا عباد الله – بقوارع التنـزيل وآياته؟! ونعتبر بما حل بالماضين من أهل القرون الخالية، ومن نُشَيِّعُ كلَّ يوم إلى الدار الآخرة في رحلات متتالية، يذهب فيها أفرادٌ وجماعات، وآباءٌ وأمهات، وأبناءٌ وبنات، وملوكٌ ومماليك، وأغنياءُ وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرارٌ وفجار، يُوْدَعون القبور، وينتظرون يوم النفخ في الصور؛ والبعث والنشور.
فاتقوا الله – عباد الله – وتذكروا قرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار، ثم إلى جنة أو نار، فأعدوا لهذا اليوم عدته، واحسبوا له حسابه، {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.