تأمُّلات أُم - (3) أعاقبك لأني أحبك
لا تكسلن أن تعاقبن إذا وجب العقاب، احتسبن الأجر في ضرب أولادكن، استحضرن نية: "القيام على الرعية"، و"عدم غش الرعية بترك تأديبهم"، "تقربن إلى الله بذلك" فوالله إنك إن استصحبت هذه النية حال عقابكِ لأيهم، إلا ألهمكِ الله رشدك، وأصلح بعقابك، وأثابك عليه خيرًا؛ فلن تألفي نفسك ضاربة لوجه أو مقبحة بسوء تأثمين عليه
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نتابع أخواتي الكريمات ما مرّ بي من بعض التأملات عسى الله أن ينفع بها.
أبدأ مستعينة بالله سائلته التوفيق والسداد:
أخطأ صغيري يومًا، وكان لما يتقن جلّ الكلام بعدُ، فضربته بشدة مغتاظة من قبيح عمله؛ لأني كنت نبهتُه ليس مرة على قبح هذا الفعل، وكأن هذا العقاب لم يشفِ غيظي؛ فضممت إليه وعيدًا شديدًا، وقرارًا أكيدًا بحرمانه مما يحب، وكأني لم أكتفِ بعدُ، فزدته عقابًا بحرمانه من اللعب سائر يومه، وكانت ثالثة الأثافي بالنسبة إليه -هذا على ما أذكر بالتقريب وإلا فالأحداث بعيدة العهد- ما يعنينا في هذا المقام تعليقه -حبيبي- وأنتن في غنىً عن ذكر أنهار الدموع الجارية من مآقيه على خديه الصغيرين، واحمرار أذنيه وأنفه وسيلان الأخير -حيث هذا المشهد لا ينفك عن ذهن إحدانا لتكراره في كل البيوت ومع كل الأطفال.
نعود لتعليقه -حبيبي- بكل كرب المظلوم يشكوني إليَّ -وهو يعدد على يديه الصغيرتين ولمَّا يتقن العدّ بعدُ: "أنا أخطأتُ واحدًا، وأمي ضربتْ/ واحد، حلوى لا/ اثنين، و لعب لا/ ثلاثة" هذه الصيغة أقرب لما قاله حينها على ما أذكر-، رأيت في عينيه الشعور بالقهر والظلم، كل ذلك مقترن بدموع الذل والانكسار، قال ما سبق منتحبًا يائسًا نائحًا، فلما أتمه وفتح فاه كأنه يريد قول المزيد أطبقه، واندفع اندفاعًا شديدًا إلى أحضاني كأنه يتوقى بي مني.
لا تسألنَ عن حالي حيث تملكني العجب، وواتسعت عيناي دَهِشة، فكانت كلماته المبعثرة -حبيبي- صدمات متعاقبة على عقلي، فلم استطع فهم -أو بمعنى أدق استيعاب- ما قال؛ حيث حالت الدهشة -التي أخذت بجماع نفسي-، وكذا نظراته الشاكية دون ذلك، فأرجأتُ ذلك، وأخذته في أحضاني أهدهده وأبكِّته.
في آنٍ: "أنت سبب ذلك، فلا تلومنَّ إلا نفسك، لا تعد لمثلها إذن...." حتى نام على ذراعيّ - فقد كان كثيرًا ما ينام إذا بكى، وكانت مسحة الأسى على محياه الصغير وآثر حمرة الجهد على وجهه، وخطوط من الدموع الرطبة مرسومة على خديه الصغيرين، أما عن نفسه وهو نائم فكان ينبئ ويفضح شديد بكائه قبل نومه لوقت ليس بالقصير.
فقه العقاب
- بعد عدة أيام كنت في مجلس مع بعض أخواتنا الفضليات بحضور معلمتنا الفاضلة -يرحمها الله- فإذا بي أحكي لهن ما حدث مع ولدي فكان لمعلمتي التعليق الآتي: "أولاً: الناس في مسائل العقاب بين غالٍ وجافٍ، مفْرِط، ومُفَرِّط
1- مُفَرِّط جافٍ: الذي لا يأبه بعقاب ولده بله أحد من رعيته إن أخطأ، فهو متساهل في القيام على الرعية ولا شك أنه أضاع بذلك حقوقهم في التوجيه لما يحب الله ويرضاه، وقصّر في أن يدلهم على الصواب وهو يعلمه فلا شك أنه غاش لرعيته، موقوف بين يدي ربه مسؤول على ما قدمت يديه، ثم استدلت -رحمها الله- بالحديث الآتي: عن معقل بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صحيح مسلم، برقم: [142]).
» (مسلم،2- مفْرِط غالٍ: وهذا الذي يعاقب بشدة، ويتعدى الحدّ في ذلك، وهذا يجب أن يسأل نفسه ما يلي: لِمَ نُعاقِب؟ ألنشف غيظ صدورنا؟ أم لنصلح؟
فإذا كان الجواب: لنذهب غيظ صدورنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لا تنتظري إصلاحًا فهذا سبيل الشيطان؛ ليبغِّضكِ إلى الرعية، وتضربي لهم مثل السوء والتعدي والظلم، ولا تنخدعي و يقتصر نظرك على الإصلاح الفوري الظاهري في الصغر فهذا لعمري إصلاح وهمي مؤقت، فعند أشتداد العود -بنية- لن تفلحي في أطرهم على الحق ؛ بسبب خراب نفوسهم: فمن حيث لا تشعرين بنيت قصرًا -ظاهريًا فقط- وهدمت بفعلك هذا مصرّا.
اتقين الله في الرعية؛ فقد تواترت النصوص في الشرع تحض على العقاب المنصف: {إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126]، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء:123]. {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27].
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: "كنت أضرب غلاماً لي بالسوط. فسمعت صوتًا من خلفي: «
نصيحة غالية: اجعلن العقاب رحمة
قالت رحمها الله تعالى ناصحة لنا: "لا تكسلن أن تعاقبن إذا وجب العقاب، احتسبن الأجر في ضرب أولادكن، استحضرن نية: "القيام على الرعية، و"عدم غش الرعية بترك تأديبهم"، "تقربن إلى الله بذلك" فوالله إنك إن استصحبت هذه النية حال عقابكِ لأيهم، إلا ألهمكِ الله رشدك، وأصلح بعقابك، وأثابك عليه خيرًا؛ فلن تألفي نفسك ضاربة لوجه أو مقبحة بسوء تأثمين عليه.
تعبَّدنَ بتطبيق العقاب المنصف إلى الله فهذا من الفقه.
وكرري لأولادك أنك تحبينهم فهم فلذات كبدك، وأعلميهم: إنكِ إنما تفعلين ذلك شفقة عليهم من النار؛ ورغبة في صلاحهم ، فليس أحد يحبهم من خلق الله مثلك ولا يدانيك محبة لهم حتى".
واختتمت كلامها -رحمها الله - قائلة: "العقاب رحمة ونعمة يجب علينا شكرها؛ ألم يقل سبحانه وتعالى:
{هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:43-44]. فجعل سبحانه جهنم أداة عقاب المجرمين من النِّعم ؛ لأنها تردع المؤمن عن المعاصي، وتحقق عدل الله في خلقه فلا يستوي الصالح بالطالح.
كذا فالله من صفاته العدل، ويحب الإنصاف حتى إنه لما يدخل أهل النار -عياذًا بالله- النار؛ ليخلدوا فيها يحمدونه سبحانه على ذلك لعلمهم ويقينهم أن ما هم فيه عدل منه فالله لم يظلمهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم لما كفروا به سبحانه، فيحمدونه على أنهم ليسوا أسوأ حالًا في النار.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]".
اللهم ارزقنا البصيرة والفقه والإنصاف... آمين.
- التصنيف:
- المصدر: