تأمُّلات أُم - (6) الفهم قبل الحفظ

منذ 2016-03-29

من منّا لم يمنِّ النفس بحفظ كتاب الله الكريم؟ بل ويحدو كل منا الرجاء مشفوعًا بكثير من الدعاء أن يحفظ أولاده كتاب الله من الصغر، وكلنا يبادر إلى الأخذ بالأسباب والعمل؛ لتحقيق هذا الأمل...

باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
نتابع أخواتي الكريمات ما مرّ بي من بعض التأملات عسى الله أن ينفع بها.
أبدأ مستعينة بالله سائلته التوفيق والسداد قائلة:

من منّا لم يمنِّ النفس بحفظ كتاب الله الكريم؟ بل ويحدو كل منا الرجاء مشفوعًا بكثير من الدعاء أن يحفظ أولاده كتاب الله من الصغر، وكلنا يبادر إلى الأخذ بالأسباب والعمل؛ لتحقيق هذا الأمل، واضعا نصب عينيه مقولة الأسلاف: (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر).

ولأني كالجميع، بادرت الولد فور تمكنه من الكلام، فأرسلته إلى دار ليحفظ القرآن؛ شافعةً رجائي بالعمل وكانت الدار عن الجوار بعيدة، والشقة في الذهاب والإياب إليها ومنها شديدة، فاستعنت بالله، وسألته التيسير فتقبل الدعاء، وسَهُلتْ لنا الصعاب.

وانتظم الولد في تلكم الدار، وبدأ يحفظ من الكتاب الكريم، وزاد حفظه من صحيح السنة المطهرة، وكذا القليل من الشعر، والأذكار -ما شاء الله لا قوة إلا بالله-.

وذات يوم ألفت الولد يردد الحديث التالي: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ ِ جاره» (متفق عليه).

وكان يقرن الترديد بالقفز الشديد من الفراش على أرض الحجرة، وفعل ذلك ليس مرة، يردد ويقفز... وهكذا، فعَجِلْتُ إليه؛ أنهره وأزجره على شنيع فعله، فقال: وماذا فعلتُ؟!

أجبته: ألا تفهم ما تقول؟! إنك بفعلك تؤذي الجيران؛ وهذا ينقص من حسناتك في الميزان.

قال متعجبا وهو حيران: أي ميزان؟!

فصمتُّ أتفكَّر، وهو إليّ ينظر، فأخذت نفسًا عميقًا، وشرعت أبين له ما جنت يداه:

يا بني! ألم تقل في حديث أبي هريرة وكان يحفظ الراوي: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؟» وهذا يعني: أن تصدق أن الله موجود، وهو إلاهك الذي خلقك وكل ما حولك، ولأنه خلق ويرزق جميع الخلق فهو الذي له الحق أن يأمرنا فنطيعه، أليس كذلك حبيبي؟! أومأ برأسه أن بلى.

«واليوم الآخر» أي: يوم القيامة نصدق أننا بعد أن نموت جميعًا يحينا الله؛ ليحاسبنا على ما عملناه: فمن أطاع أوامرالله، وفعل الخير؛ أعطاه من الحسنات الكثير وأدخله الجنة في الأخير.

ومن لم يطع أوامر الله، وفعل الشر، وجد الكثير من السيئات، وأدخله الله النار بعد الممات.

فمن كان مصدقاً قلبه بالله واليوم الآخر: لن يفعل السوء والشر؛ لأنه يخاف أن يدخل النار-نعوذ بالله- أليس كذلك يا بني؟!" أومأ برأسه أن بلى.

"إذن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا... ماذا يا بني؟"

قال: «فلا يؤذِّ جاره».

قلت: "وأنت عندما أخذت تقفز بشدة آذيت الجيران، لأن صوت القفز مزعج لهم؛ فهل هذا ما جاء في الحديث الذي تقول وما أمر به الرسول؟!".

- أومأ أنْ لا.

فختمت معه الحديث بالدعاء، وعلى فهمه الذي أبدا بالثناء.

 ومر يوم ويوم وأيام، وعاد ليردد حديثاً جديداً:

عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري، صحيح البخاري، رقم: [6484]).

واصطحبته مساء ذلك اليوم إلى بيت الأقارب، وهناك وجد أطفالاً يلعبون فانطلق يخوض فيما فيه يخوضون، وما هي إلا برهة يسيرة، وإذا بالصراخ يعلو، والجميع من ولدي يشكو: فمِن قائل: ضربني، ومِن قائل: ظلمني، ومن قائلة: نهرني.. جذبني...، فنظرت إليه عاتبة، تخرج من عينين سهام له مؤنبة، وأجلسته بجواري حتى انقلبنا إلى الدار، وحال ولوجنا، اتخذ ركنًا بجوار الجدار، فأخذت نفسا عميقا وكان هذا الحوار:

شرع يدافع عن نفسه، ويقول: "إن السبب فيما حدث أقرانه..".

فأقبلت بكليتي إليه وأنا ناظرة إلى عميق عينيه، فسكت في الحال، وترك لي المقال فسألته:
ألا تعقل ما تقول؟! ألم تردد قبل خروجنا من الدار قول الرسول: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» المسلم الذي يرضى الله عنه المسلم الذي سيدخل الجنة الذي يسلم المسلمون من لسانه: فلا يسبهم ولا يغيظهم بقوله.

«ويده»: فلا يعتدي عليهم بالضرب أو الدفع أو الجذب.... هل هذا الذي فعلت فعل مسلم يرضى الله عنه؟!

 فغض الطرف وقال: أن لا.

فجتزأت بذلك، ومر هذا كالسابق.

ومرت أيام.... وأيام... وجاءت لزيارتنا خالته ومعها بنتها في سن الفطام، فأخذها؛ ليريها ما عنده من لعب ولم يمر من الزمن غير اليسير، وإذا بمعركة بينهما تصير، وبكاؤهما كأنه النفير؟! فهرعنا إليهما فأمرته: أن يكف في الحال، فرفض وأكمل كأنه محال: لن تأخذ لعبتي، فأمسكته وقد دميت من عضتها يداه، وفاضت بالدمع عيناه!
وأمسكت أختي الصغيرة وقد تركت أصابع على خدها آثارًا وحدّا، قد أشتد منها إحمرار الخدّ!

وعندما نامت الصغيرة، وهدأ ابني قليلاً شرعت أحاوره: 

أتضرب ضيفة؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (البخاري، صحيح البخاري؛ رقم:[6136]).

 فإذا به يكمل لي الحديث: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال.

قلت: اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله، إذن تحفظ الحديث! قال: نعم

فتنفست بعمق وقلت له: فلماذا لم تعطها اللعبة وهي ضيفتنا؟ أليس هذا من إكرام الضيف؟! 

فسكت هنيهة ثم برقت عينيه وقال: لا هي صغيرة! فقلت له: الضيف يطلق على الكبير والصغير.

ألم تأخذ في الدار حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، و يوقر كبيرنا» (الألباني، السلسلة الصحيحة؛ رقم:[2196]). 
أومأ أن بلى.

 فسألته: ما معنى يرحم صغيرنا؟ هي صغيرة، وأنت كبير يجب أن ترحمها وتعطي لها ما تريد ولا تضربها..
ففتح فاه ليقول عضتني.

فأسكته وقلت: وإن عضتك هي صغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ليس منا من..» أي: ليس مثله ولا مثل أصحابه لأنهم يرحمون الصغير، ويوقرون الكبير وأنا كبيرة قلت لك:
كفّ عنها فلم توقرني ولم تستجب لأمري، ألا تخشى ألا تكون مثل الرسول وأصحابه وأن تحرم صحبتهم في الجنة؟!

فنكس رأسه وبكى ولم يحر جواباً.
فختمت الكلام بالدعاء: "هداك الله، هداك الله، هداك الله".

 ومرت الأيام وجاءني بمحفوظات مادة السلوك والآداب، وكان عليه حفظ ا لآيات من سورة لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال ٍ فَخُور . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:17-19].

فكان يرددها صارخًا؛ معللا ذلك أنه يقلد طريقة قراءتها في الدار، الله المستعان الله المستعان الله المستعان
لن أعلق على ذلك الموقف وسأترك لخيالكنَّ العنان.

الحق أنني لم أقصص كل المواقف، ولكني ضربت بعض الأمثال، لتكون شاهدًا لكنَّ عن الحال.

والحق أن الأطفال ليس بها العيب، فقد ألفت الكبار يفصلون بين ما يفعلون وما يقولون بله يحفظون وبدأت ألحظ ما كنت عنه غافلة، من أفعالي وأفعال كل غريب، بله من العاقلة، وأصبحت من تلك المواقف أتحسس، ووالله ما على خلق الله أتجسس، فهي لكل ذي مسكة من عقل ظاهرة؛ شاهدة على غفلتنا السافرة. وما -والله- أفتري فهاكم مثلاً واحدا على ما أدعي: 

صلى إمام المسجد -حافظ القرآن ذي الصوت الفتّان في مسجد من أكبر مساجد العاصمة في رمضان- صلاة القيام فأطاله حتى آذان الفجر، ولم يعطِ لأحد من المأمومين خلفه من وقت للسحور، راغبًا بفعله عن سنة الرسول؛ راغبًا في إطالة القيام، مضيعًا لحق كثير من الأنام، ولعل قاله حال قيامه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]، لله الأمر من قبل ومن بعدُ، إلى الله المشتكى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].

 سألوا عائشة رضي الله عنها عن أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: "كان خلقه القرآن" (الألباني، صحيح الجامع،رقم:[4811].

وفي الأخير عدَّلت من رجائي وألححت بدعائي:
اللهم اجمع القرآن في صدر أولادي، وارزقهم العمل به آمين، وأولادكن وأولاد المسلمين أجمعين. 

أم هانئ

  • 3
  • 0
  • 5,617
المقال السابق
(5) دموع الرحمة
المقال التالي
(7) ما دَخَل الرفقُ في شيء إلا زانه ..

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً