تأمُّلات أُم - (4) رحمة الله

منذ 2016-04-05

وهنا تمثلت حالي فتذكرت ما سبق من شديد قالي لكل مصاب كنت أظنني أسليه، وفي مصابه الجلل أعزيه وإذا بي كنت بشديد قولي أأذيه، فشرعت أستغفر الله على ما فات، عاقدة العزم على الرفق والتلطف لما هو آت برحيم العبارة، وجميل البشارة ...

نتابع أخواتي الكريمات ما مرّ بي من بعض التأملات عسى الله أن ينفع بها.
أبدأ مستعينة بالله سائلته التوفيق والسداد:

 كنت يوما أصلي وكان ابني الصغير الذي لمَّا يكمل عامه الثاني بعدُ يلعب بجواري، حتى إذا ما سجدت هبَّ واقفًا، وامتطى ظهري مرتحلاً إياي، فشعرت بغضب شديد وغيظ من فعلته هذه، وشرعت أجذبه بيدي لينزل حتى أستطيع القيام من السجود، ومن نافلة القول: إني لم أكن على تلك الحالة أفقه مما أذكر به الله شيئًا، ومما زاد الأمر سوءًا أن الولد زاد تمسكًا بثوبي مما أشعرني بالاختناق، فما كان مني إلا أن حملته من طوق ثوبه وألقيت به على الأرض بشدة، فأخذ يصرخ؛ وقد تركتْ حاشية ثوبه آثارًا مبرحة حول عنقه الصغير، وأكملت صلاتي وصراخه لا ينقطع، مما زادني غيظاً وأبعد عني فقه ما أتلفظ به في صلاتي، حتى إذا ما انتهيت أخذت أعنفه وأصرخ عليه، وفي الأخير ختمت الموقف مهددة إياه ومتوعدة له أن يعود لمثلها؛ معللة قولي بأن فعل ذلك من سوء الخلق وقلة التهذيب. 
هذه واحدة.

والثانية:
 كنت وابني عند الأهل في زيارة ثم انصرفنا منقلبين إلى البيت، وكان بيت الأهل بالجوار، على مسيرة قصيرة من بيتنا، فأمسكت يده الصغيرة بين يدي، ومشينا في الطريق وكان حديث عهد بسير، وكنت أمشي الهوينى لتتواكب خطانا، ولكنه -حبيبي- كلما مشى خطوات أخذ يتلفت حواليه ينظر هنا وهنا وهنا؛ يقف ليتأمل هذا المشهد أو ذاك، وأنا أستحثه كي يسرع، ولكُنّ أن تتصورن كيف كان البون يتسع بيننا شيئًا فشيئاً، حتى صار قدر طول، ذراعينا أنا فرطه وهو بالخلف، كأنه في عالم آخر غير منتبه ألبتة أني استحثه ليسرع قليلًا، فزاد غيظي مما يفعل حتى إنني شرعت أدعو الله بصوت أسمعه: "اللهم وسع لي وسعي" يصاحب دعائي زفرات ملتهبة قلقة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير أنه تعثَّر، وسقط على الأرض يبكي، فاضطررت لحمله حتى إذا ما وصلنا بشق الأنفس وضعته في باحة البيت لاهثة الأنفاس، أنظر إليه شزرًا، وأنا أحاول عبّ الهواء؛ أتعجل انتظام أنفاسي؛ لأبكته وأقرعه وأتوعده أن يعود لمثلها، وقد كان، وهو -حبيبي - منكمش كهرة صغيرة مروَّعة في ركن عند الجدار.

مرت أيام وأيام، وكنت أطالع مسألة في كتاب: (صفة الصلاة) لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى - وإذا بهذا الحديث يستوقفني طويلاً: 

-عن شداد بن الهاد الليثي رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسيناً، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الناس: "يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهرني صلاتك سجدة أطلتها! حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟!" قال: «كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (صححه الألباني، صحيح النسائي، رقم:[1140]).

والحق أنني لم أكن أجهله، ولكن هالني المعنى الذي فيه من رفق النبي صلوات ربي وتسليماته عليه وهو رجل -ليس بمرأة بله أمّ- بطفل يتركه مرتحلاً إياه حتى يقضي حاجته وهو إمام، بل ويصرح للناس بذلك، لِمَ؟! ليعلمنا الرفق والرحمة والتنزل لعقل وحاجات الأولاد، يا الله!! كيف غاب عني ذلك المعنى؟ أستغفرك ربي وأتوب إليك إني كنت من الظالمين.

* فما إن شرعت أستغفر حتى توارد إلى ذهني أحاديث تترى:

- عن أبي قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل أمامه بنت زينب، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها (صحيح البخاري، رقم:[ 516]). لماذا لم يأمر مائة من المسلمين بحملها عنه حتى يخشع في صلاته؟! أتعجب ولا أنتظر جوابًا، فالإجابة واضحة. 

-وعن أنس بن مالك قال: "إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه" (صحيح البخاري، رقم:[ 709]).
 يهتم عليه الصلاة والسلام بوجد الأم على بكاء صغيرها، فما بالي أبكيه لأصلي بخشوع. عجبًا.

وإذ زاد تفكُّري في تلطفه عليه الصلاة والسلام زاد توارد الأحاديث على خاطري:
فعن عائشة رضى الله عنها قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه -يستخفين هيبة منه رواية آخرى-، فيسربهن إلي فيلعبن معي" (صحيح البخاري، رقم:[ 6130]).

يفعل صلوات ربي وتسليماته عليه ذلك مع زوجته صغيرة السن، يدخل بيته عليه الصلاة والسلام فيجد زوجته تلعب باللعب مع أترابها، فتخجل البنات ويستخفين منه هيبة له فيأتي بهن -بكل رفق ولطف إليها لماذا؟! ليلعبن معها (وهي زوجته) ولن أعلق.

وتتداعى الأحاديث عن سيد المرسلين في سِمْطٍ -والله- رائق ثمين:

- وعن عائشة رضي الله عنها: "سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته فلبثنا حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني فقال هذه بتلك" (صححه الألباني، إرواء الغليل، رقم:[327]). وفي رواية لهذا الحديث: أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الركب فتقدموا ثم قال: «انزلي يا عائشة» فنزلت ونزل فقال: «تعالي» سابقني وأنا حينئذ خفيفة فاستبقت أنا وهو فسبقته حتى إذا كان بعد ذلك خرجت في سفر آخر فأمر الركب فتقدموا ثم قال لي: «انزلي» فنزلت ثم قال: «سابقيني يا عائشة» فسابقته فسبقني فقال: «هذه بتلك» فقلت: "يا رسول الله قد كنت نسيت تلك" وأيضا لن أعلق.

- وعنها رضي الله عنها أنها قالت: "كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو" (صحيح البخاري، رقم:[5190]).

وهنا سالت دموعي لمشاعر شتي انتابتني، اللهم يا رفيق ارزقنا من يرفق بنا، وارزقنا رفقًا ترضى به عنا آمين.

وعن أنس بن مالك قال: أن امرأة كان في عقلها شيء. فقالت: "يا رسول الله! إن لي إليك حاجة". فقال: «يا أم فلان! انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك» فخلا معها في بعض الطرق. حتى فرغت من حاجتها"(صحيح مسلم، رقم: [2326]).

يخاطب الناس على قدر عقولهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا آمين.

عن يعلى بن مرة: "أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعوا له فإذا حسين يلعب في السكة قال فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم وبسط يديه فجعل الغلام يفر ها هنا وها هنا ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فأس رأسه فقبله وقال: «حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط»" (حسنه الألباني، صحيح ابن ماجه، رقم: [118]). يمازح سبطه أمام جمهرة من الصحابة في سكة من سكك المدينة، ويعتنقه ويتنزل فيلاعبه و..

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» (صحيح البخاري، رقم: [6129])، وقد ترجم له البخاري في كتابه الماتع: الأدب المفرد: ب (باب المزاح مع الصبي). 

يلاطف ولد صغير كان له طائر مثل العصفور اسمه (النغير)، كناه وتنزل إليه رفقًا ورحمة يمازحه ويواسيه ليسليه في مصابه وحزنه على موت طائره العزيز.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

ولي تعليق أخير:

لم أكن جاهلة بهذه الأحاديث قبلُ، ولكنها لما تواترت على قلبي بعد ما سقته لكُنَّ من أحداث علمت أنني لم أكن أعلمها على الحقيقة، إذ العلم بالشيء علم بمعناه، فلما كنت جاهلة بمعناها رغم علمي بألفاظها، كان حقيق عليّ أن أوصف بالجهل.

والسؤال: أين كنت أنا من معناها؟

وكم من الأحاديث أتوهم علمها، وأنا أبعد ما أكون عن فقهها؟

اللهم هب لنا من لدنك علمًا نافعًا آمين.

أم هانئ

  • 0
  • 0
  • 2,844
المقال السابق
(3) أعاقبك لأني أحبك
المقال التالي
(5) دموع الرحمة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً