(5) دموع الرحمة

أم هانئ

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - قضايا إسلامية -

باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

نتابع أخواتي الكريمات ما مرّ بي من بعض التأملات عسى الله أن ينفع بها.
أبدأ مستعينة بالله سائلته التوفيق والسداد:

- اصطحبت ابني عصر يوم من الأيام إلى بيت إحدى أخواتنا، وقد كنت دُعيت على عجلٍ من قِبلها وبعض أخواتنا الكريمات؛ لاصلاح ذات بين، حيث حدثت وقيعة بينهن لأسباب متفرقة، فلبَّيتُ الدعوة، واصطحبت أصغر الأولاد معي وكان قد جاوز السنتين بأشهر- وجلستُ والأخوات في حجرة، وشرع الأولاد الصغار يلعبون في حجرة الألعاب، وبُدئ الكلام بالترحاب والتحية، وشيئًا فشيئًا تصاعد الحديث وتخللته دموع أخوات، ووصف حال ودفع لأخريات، وتعليق على ذلك من الباقيات، وأثناء هذا الخضم من المشاعر والأحداث كان الأولاد يتناوبون علينا؛ كل له عند أمه حاجة وكان ابني بحاجتي مثل أقرانه، فكان يأتيني بين الفينة والأخرى؛ ليريني هذه اللعبة أو تلك قائلاً -على سبيل المثال-: "انظري يا أمي: أليست هذه كلعبتي؟ انظري يا أمي: كم هذه اللعبة جميلة! أريد لعبة مثلها" ولم يكن ما يفعله الأطفال ليفت في عضد الناقش، وزاد وطيس الحوار واستغرَقَنا بكليتنا، وفي تلكم الحال جاءني ابني وهو حامل للعبة على شكل (سلاح) قائلاً: "انظري يا أمي، فأخذتها منه، وأنا أكمل حديثي وقد صمتُ الجميع لأهمية ما أقول، ولم أشعر إلا ويدي على الزناد، وقد اعتصرته أثناء حديثي انفعالاً فإذا بصراخ مروّع يملأ المكان، يصم الآذان، وإذا مصدره ولدي الصغير!

يا الله ماذا حدث؟ ما الذي يبكيك؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!

فأخذت أهدهده، وهو يصرخ ويصرخ واضعًا كفه الصغيرة -حبيبي- على إحدى عينيه، وقد اتسعت عيون الحضور دهشة وتعجبًا، وبعد زمن ليس بالقليل هدأ الولد قليلاً؛ ليريني أسفل جفنه الأيسر وقد أثرت به خرزة صغيرة خرجت من فِيّ اللعبة، والتي ضغطتها دون شعور مني -غير عالمة ولا واعية لخطورة ما يخْرج منها، حيث لم أرَ مثلها قبلاً- فلله الأمر من قبل ومن بعد، والحمد لله على كل حال، قدر الله وما شاء فعل، كم لطف الله بنا أن جنبها العين ذاتها!

وهنا لم أستطع الاسترسال في الحديث؛ فاستأذنت منصرفة، ولم يخطر لي على بال أن أراجع طبيبًا، أو أصحبه للمشفى ؛ لسلامة ظاهره، وكفه عن البكاء حينها.

إلا أنه أصرّ عليّ كي أحمله -فحسبته دلال الأولاد بعد البكاء من صغار الحوادث- وحملته وقد ألقى برأسه الصغير -حبيبي- على عاتقي، ونام حتى وصلنا البيت، فوضعته على الفراش متأثرة، واعية -تمامًا- أنني سبب ما حدث له وإن لم أتعمده.

* فنام تلكم الليلة وكان يئن في نومه، ويقعد صارخًا أحيانًا فأهدهده؛ ليعاود نومه الذي أقل ما أستطيع وصفه به: أنه كان مضطربًا، وكانت ليلة ليلاء، منيت النفس بانقشاع الغمة مع انجلاء الليل، ولكن هيهات، فما إن جاء الصباح إلا وقد علا الصياح، وزاد الأمر سوءًا، ونظرت إلى عينه المصابة، فهالني احمرار بؤبؤتها الشديد، خيل إلي أنه قد غشيتها الدماء، فبادرت به الشروق إلى المشفى القريب فارغًا فؤادي يحدوني الرجاء، وفحصه الطبيب، ثم كان حديثه إليّ كالصواعق المرسلات: "لن يرى بعينه إلى ما شاء الله، فأمامنا أمد طويل" وبالكاد وعيتُ ما قاله بعدُ، ولكني اِخاله، رام تقريعي على شنيع صنيعي، وإهمالي في مراجعة الطبيب، مما جعل أمر علاجه عصيب!! 

(إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصبيتي واخلف لي خيرًا منها) فلا تسألنني عن حالي!! جرت عيني بالدمع، مع انقطاعي عن السمع، فلم أعلق على قوله بشيء.

وفي الأخير أمرني الطبيب:
بالمكث في المشفى إلى أجل غير مسمىً؛ ليكون -حبيبي- تحت الملاحظة الدائمة، وأمرني ألا أجعل رأسه في وضع أفقي بأي حال آناء الليل وأطراف النهار، مع وضع العديد من علاجات العيون على مدار الليلة واليوم، و........
فانصرفت إلى دعاء ربي أناجيه بقلبي، أبثه كربي، وفيض عيني في اتصال، و قد أصبح كفها عن البكاء محال 
وتوارد عليّ الأهل والجيران و......و...... فمن راقية، ومن داعية، ومن مواسية مسلية، وقد أجمع الأحباب والأهل والأصحاب على:

(1)- لطيف قدر الله بنا!
(2)-
ونصحي: بالكف عن البكاء، وعدم الاعتراض على القضاء.

- فأجيبهم: بالحمد لله على كل حال، وبأن الكف عن البكاء محال، فالدموع مني فياضة، وعيني -والله يا قومي- لي غير منقادة، فصرتُ عن كفها كليلة، وليس -ياقومي- بيدي من حيلة.

* وزاد وعظ إحدى المقرَّبات فنصحتني بكلمات شعرت بها كالسياط: "لماذا شديد البكاء، فماذا إن أصبحت إحدى عينيه عمياء!! يا أختنا: أين الرضا بالقضاء والصبر على البلاء؟!".

فألفتني وقد ضاق صدري من كلامها، و غص حلقي بنصحها، وإن لم أستطع ساعتها الرد على قولها، فصبَّرتُ النفس حتى انصرف الحضور، وسألت نفسي: هل أنا -حقًا- غير راضية؟ لا والله بل أم على طفلها حانية! فما لهم لا يفقهون، وبالتسخط يرمونِ!

** والحق أني لم أكن أتجاوز عن قولها إن كنت في مكانها، فكلامها حق، نردده لكل مصاب، فلماذا النفور من الخطاب؟!

- وأتاني الجواب: ما كان أحوجني: إلى كلمات مواسية، رقيقة حانية، رفيقة العبارة، جميلة البشارة.
ويشهد الله أني كنت بقضائه راضية، فمتى كان محض البكاء دليلا على عدم الرضا؟
وهل مني التسخط قد بدا؟! من قال ذلك؟ ومتى يُنهى عن البكاء متى؟!

- فقد بكى يعقوب ابنه يوسف عليهما السلام بكاءً ذهب بعينيه: {وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} ​[​يوسف:84]. فابيضت عيناه وهو كظيم.

- عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قال: "لما توفي ابن رسول الله إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له المعزي؛ أبو بكر أو عمر: "أنت أحق من عظم الله حقه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول؛ لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدنا، وإنا بك لمحزونون» (حسنه الشيخ الألباني، صحيح ابن ماجه،رقم: [1302]).

 تعجب الصحابة من بكاء الرسول؟ وكذا أمام جمع من الحضور!!

- عن محمود بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم«إنما أنا بشر، تدمع العين، ويخشع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» (صححه الشيخ: الألباني، صحيح الجامع، رقم:[2340]).

** فدمع العين من خصيصة البشر.

- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب» فأرسلت إليه، فأقسمت عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا، ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، ونفسه تقلقل في صدره، حسبته قال: كأنها شنة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال«إنما يرحم الله من عباده الرحماء» (البخاري، صحيح البخاري / رقم: [7448]).

** فمن يرحم صغيرًا إن لم ترحمه أمه؟!

 و عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قالأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن: "أتبكي أولم تكن نهيت عن البكاء؟" قال: «لا. ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة ؛ خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة الشيطان» (حسنه الشيخ الألباني، صحيح الترمذي، رقم: [1005]).

** لم ينه عن كل البكاء، فالأمر فيه تفصيل كما فسر لنا الرسول.

- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بنتًا له تقضي، فاحتضنها فوضعها بين ثدييه، فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: "أتبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!" قالت: "ألست أراك تبكي يا رسول الله؟" قال: «لست أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير، على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل» (علق عليه الشيخ الألباني في: السلسلة الصحيحة / رقم: 4/173- قائلاً: إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات).

** ففرق -بأبي هو وأمي- بين بكائها (فصاحت أم أيمن) المحظور في الشرع، وبين بكائه الذي يدل على الرحمة، فليس البكاء كالبكاء بحال.

** وهنا تمثلت حالي فتذكرت ما سبق من شديد قالي لكل مصاب كنت أظنني أسليه، وفي مصابه الجلل أعزيه، وإذا بي كنت بشديد قولي أؤذيه، فشرعت أستغفر الله على ما فات، عاقدة العزم على الرفق والتلطف لما هو آت برحيم العبارة، وجميل البشارة.

وبتُّ أبث همي لربي، أدعوه وأتوسل إليه، أن يفرج كربي، أناجيه أني بقضائه راضية، ولكريم ألطافه واعية.

وفي الأخير بفضل من الله و نعمة، وبسبب دعاء الصالحين والصالحات عفا الله عنه وأنار له عينه.

أسأل الله أن ينير له بصيرته و إخوانه وأخواته وجميع ذراري المسلمين بمنه وجوده وكرمه آمين.