المــولد النبـوي، ما وراءه ؟!
منذ 2010-02-23
إن قضية المولد في حد ذاتها ليست بتلك المشكلة التي يترتب عليها إيمان أو كفر، وإن كانت لا ريب محدثة، يدل على حدثانها: تأخر ظهورها عن عصر النبوة والصحابة والتابعين والسلف، ومضي القرون الثلاثة الأولى المفضلة دون وقوعها..
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء، وإن كان الصواب منعها.
بل القضية أبعد من ذلك، إنها قضية في كل عام يدور جدل كبير -إذا حل شهر ربيع الأول- حول قضية المولد النبوي بين مؤيد ومعارض..
هذا الجدل يأخذ في كثير من الأحيان شكلاً من أشكال التعصب واتباع الهوى، ويقينا أن المسلم يقصد الحق ويبتغي الثواب، لكن هذا القصد لا يغني ولا يجدي إلا إذا وافقه اتباع الشرعة المحمدية..
وإن قضية المولد في حد ذاتها ليست بتلك المشكلة التي يترتب عليها إيمان أو كفر، وإن كانت لا ريب محدثة، يدل على حدثانها: تأخر ظهورها عن عصر النبوة والصحابة والتابعين والسلف، ومضي القرون الثلاثة الأولى المفضلة دون وقوعها..
وكل الخير في اتباع من سلف، وكل الشر في ابتداع من خلف، والأمة الراشدة هي التي يسعها ما وسع سلفها الصالح، لكن لا يعنينا في هذا المقام أن نبين أصل المولد ونشأته بالقدر الذي يعنينا فيه استشفاف الحقيقة الكامنة وراء هذا المولد..
أمامنا ثلاث قضايا كلها تتعلق بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه:
الأولى: المولد.
الثانية: التوسل به.
والثالثة: شد الرحل إلى قبره.
هذه الأمور الثلاثة صارت عند طائفة من الناس علامة على حب رسول الله، فمن احتفل بمولده وتوسل به وشد رحله إلى قبره فهو محب، ومن لم يفعل ذلك أو نهى عنه فهو فاقد الحب.
وقد قلنا من قبل إن إمامنا في كل قضية الكتاب والسنة وفقه السلف:
فهل الشرع دعى إلى شيء من ذلك؟
وهل جعلها علامة على حب الرسول؟
الثابت أن الشرع لم يأمر بالاحتفال بالمولد النبوي، لكنه في ذات الوقت لم ينه عن تدارس سيرة النبي واستخراج العبر منها في كل زمان ومكان، بل هو من المقربات إلى الله تعالى، والشرع لم يعلق حب الرسول على فعل تلك الأمور الثلاثة، بل علقه على اتباعه وتعظيمه.
وأما التوسل فإن الشرع لم يأمر بالتوسل بالنبي الكريم بعد مماته، وقد كان الصحابة يتوسلون به في حال حياته، أي يطلبون منه الدعاء، وكان هذا جائزاً حينذاك، لكنه لما مات تركوا ذلك لعلمهم أن الميت ولو كان نبياً لا يملك أن ينفع أحداً.
لذا فإنهم لما قحطوا في عام الرمادة في عهد عمر استسقوا بالعباس عم النبي وما استسقوا بالنبي فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإن نستسقيك بعم بنبينا فاسقنا" البخاري، كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الأمام الاستسقاء إذا قحطوا (انظر: فتح الباري 2/494) .
وفي خلافهم في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة، لم يتوسلوا به في حل ذلك الخلاف، ولا في المحنة التي تعرض لها عثمان رضي الله عنه، ولا في الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فلو كان التوسل به -أي طلب الدعاء منه بعد مماته- جائزاً لم يفرط الصحابة فيه، فعدم فعلهم -وهم الأحرص على الخير- يدل على المنع منه.
وأما التوسل بجاهه فذلك أمر لم يفعله الصحابة أبداً لا في حال حياته ولا بعد مماته، وما ورد من أثر يجيز التوسل بجاهه فهو ضعيف، وما عرف عن السلف مثل هذا النوع من التوسل، إلا ما كان من الإمام أحمد.
أما عن شد الرحل إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فإنه نهى عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فقال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» [البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة انظر: فتح الباري3/63ـ64]؛ أي لا يجوز شد الرحل لأجل العبادة إلا لهذه المواطن الثلاثة.
أما من قصد غيرها لأجل العبادة، فقد خالف الأمر ووقع في النهي، لكن قد يأتي من يخالف فيقول:
"ليس في الحديث النهي عن شد الرحل إلى القبر، وليس فيه ذكر القبور أصلا، فمن أين قلتم الحديث ينهى شد الرحل إلى القبر؟".
فيقال: إنما ذكرت المساجد لأن المقصود هو العبادة، فالقاصد للمسجد إنما يقصده لأجل الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاعتكاف، وهذه عبادات، وزيارة القبور لا ريب أنها عبادة لأن الشارع أمر بها، وكل ما أمر به الشارع فهو عبادة.
وعلى ذلك فلا يجوز السفر من أجل زيارة القبر، لأن السفر لأجل العبادة لا يجوز إلا لهذه الثلاثة. وليس في هذا الكلام منع لزيارة القبور، بل الزيارة مشروعة في كل حال، أما الممنوع فهو السفر لأجلها.
فإن لم يسلم المخالف بهذا فحينئذ الحَكَم الذي يحكم بين المسلمين إذا اختلفوا في فهم نص من نصوص الشرع هم السلف وعلى رأسهم الصحابة، فماذا يقول الصحابة في هذه المسألة؟.
ورد أن أبا هريرة خرج إلى الطور فلما بلغ ذلك بصرة بن أبي بصرة الغفاري، قال له حين أقبل: "لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله يقول: فذكر الحديث" الموطأ، النسائي كتاب الجمعة باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، صححه الألباني..
وجاء رجل إلى ابن عمر فقال له: "إني أريد الطور، فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور ولا تأته". أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة (انظر: فتح المجيد باب ماجاء في حماية المصطفى جناب التوحيد ص289).
والطور ليست بمسجد بل هي بقعة مباركة، كلّم الله فيها موسى عليه السلام، فالصحابة ما فهموا من الأثر أن المنع خاص بالمساجد، بل فهموا المنع لأجل العبادة، ولو فهموا أنه مخصوص بالمساجد لما أنكروا على من خرج إلى الطور يريد التبرك.
فهذه فتوى الصحابة في هذه المسألة، ولا أظن مسلماً إلا هو يرضى بما ثبت عنهم ورضوه ديناً، لأنهم هم الكمل، وهم خيار الأمة وقدوتها.
وكل حديث ورد في فضل زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فهو ضعيف كما ذكر الأئمة المحققون كابن تيمية، بل الذي ورد النهي عن اتخاذ قبره عيدا فقال: «لا تجعلوا قبري عيدا» [صححه الألباني]؛ أي تعادونه بالزيارة. والعيد في اللغة اسم لما يعتاد مجيئه، سمي عيد الفطر عيداً وكذا الأضحى والجمعة لكونها معتادة تجيء كل عام وكل أسبوع، فالذي يزور قبره في كل موسم أو عيد أو نحو ذلك فقد اتخذ قبره عيداً، وهذا هو ما نهى عنه الرسول الكريم..
وقد أنكر الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب اعتياد القبر، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال: "أتى الحسن بن الحسن بن علي عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: "هلم إلى العشاء"، فقلت: "لا أريده". فقال: "مالي رأيتك عند القبر؟"، فقلت: "سلّمت على النبي". فقال: "إذا دخلت المسجد فسلم". ثم قال: إن رسول الله قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [قال الألباني مرسل بإسناد قوي] (انظر: الفتاوى 27/189. فتح المجيد باب حماية المصطفى جناب التوحيد ص286) .
فقد أنكر عليه زيارته القبر، وأرشده إلى السنة وهي أن من أراد السلام على رسول الله فإن في الأرض ملائكة سياحة تبلغه عن أمته السلام، فلا فرق بين القريب من القبر والبعيد عنه، كما ذكر ابن رسول الله الذي هو أقرب الناس نسباً إليه، فالسنة لمن أراد السلام عليه أن يسلم حين دخوله المسجد، كما أرشد إلى ذلك النبي الكريم، والسنة أن يصلى ويسلم عليه في الصلاة، فهذا الذي يشق على نفسه بالسفر وإتيان القبر لأجل السلام، يستوي هو ومن قعد في بيته في أقصى الأرض في بلوغ السلام، فلم هذا العناء ورسول الله لم يأمر بزيارة قبره؟.
وما عرف عن صحابته أنهم كانوا يعتادون القبر، بل لم يكونوا يزورونه إلا ما كان من ابن عمر كان إذا قدم من سفر أم القبر فسلم على رسول الله ثم أبي بكر ثم أبيه (انظر: المصنف لعبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كان يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم).
قال عبيد الله بن عمر: "لا نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك" (انظر: مصنف عبدالرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتح المجيد ص288، الجواب الباهر ابن تيمية 60).
إذاً، تعليق محبة رسول الله بفعل هذه الأمور الثلاثة إذا كان صادراً من جاهل لا يعلم حقيقة الأمر النبوي وما هو مشروع وما هو ممنوع، فهو معذور لجهله وظنّه ثبوت مالم يثبت، وإن كان لا يعذر في ترك سؤال أهل العلم.
وأما إن كان صادراً من عالم يعلم عدم ثبوت ذلك في الشرع ويخفي وراءه اعتقاداً خاصاً وفكراً موروثا عن الأديان والنحل القديمة، يقصد به تقويض ملة الإسلام وهدم أركان الإيمان بالله فهنا نصل إلى لب القضية التي نريد أن نوقفكم على حقيقتها:
إننا أمام فكر خطير لا يمت إلى الإسلام بصلة، له قواعده وأركانه المستمدة من ثقافات أجنبية قديمة من قبل الإسلام، دخل إلى الإسلام باسم الزهد في أول أمره لما كان الزهاد من أرباب هذا الفكر يملؤون الدنيا، ثم تحول لاحقاً إلى الدعوة إلى محبة رسول الله لما قل الزهادون منهم وكثر المترفون.
لذا فالذي نقوله هنا:
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء، وإن كان الصواب منعها لما سبق من أدلة.
بل القضية أبعد من ذلك، إنها قضية فلسفية تخرج معتقدها من دائرة الإسلام وتدخله دائرة الإلحاد والزندقة، وللأسف، المتفطنون لهذا الأمر هم قلة والأكثر في غفلة عن الحقيقة، وتلك الغفلة تساهم بطريقة لا شعورية في ترسيخ هذه الفكرة المصادمة للإسلام، حين ينحصر البحث والجدل حول قضايا فرعية مع نسيان القضية الأساسية.
لذا كان من المهم أعطاء فكرة عن الأصل الذي انبثق عنه ادعاء محبة الرسول والنسبة إليها عند هؤلاء الذين سموا صوفية وأشغلوا العالم بهذه الدعوى، لكي نعلم هل هم صادقون في هذه المحبة، أم أن لهم غرضا آخر من الدعوة إليها؟
___________________________
مقدمة موجزة
ذكرنا في المرة السابقة أن الذين يدعون محبة رسول الله -ممن انحرف قصدهم وفسد مذهبهم- اتخذوا فكرة: المولد، والتوسل، وشد الرحل إلى القبر، سترة لغاية إلحادية من آمن بها خرج من الإسلام ودخل في الزندقة. وفي هذه المرة نبين حقيقة هذه الغاية الإلحادية.
الإنسان الكامل:
الإنسان الكامل، فكرة فلسفية صوفية كانت رائجة في الأمم المتصوفة من قبل الإسلام. أطلق هذا اللقب من قبل الصوفية القدماء من أهل فارس والهند واليونان على أول موجود وجد في الكون حسب نظريتهم، حيث زعموا أن هذا الموجود الأول فاض عن الله تعالى كما يفيض نور الشمس عن الشمس، لم يخلقه بل صدر عنه، فهو نور من نور، ونوره امتد إلى جميع ذرات الكون: فبه قامت الحياة، وهو الإله الذي صنع وخلق الموجودات، وهو الواسطة بين الخالق والخلق لما له من شبه بهما، فله صفات الإله وله صفات البشر.
ولأنه بهذه المرتبة فهو يعلم الغيب ويدبر أمر العالم، وربما سموه الروح الأعظم أو العقل الأول أو الفعال وغيرها من التسميات، هذه خلاصة فكرة الإنسان الكامل التي في تلك الثقافات القديمة قبل الإسلام (انظر الإنسان الكامل، عبدالرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية 1/136، بنية العقل العربي، الجابري ص378).
ثم إن الله تعالى كتب لهذا الدين أن ينتشر في بلاد فارس والهند فدخل فيه كثير من حملة هذا الفكر أبناء تلك البلاد، ومع قلة الوعي بحقيقة الإسلام بقي كثير منهم على هذا الاعتقاد الفاسد، ظانين عدم منافاته لما أنزل الله، فصاروا يدعون إليه بحسن نية وقصد.
لكن طائفة أخرى تعمّدت نشر هذا الفكر بين المسلمين خبثاً وكيداً لما كانت قلوبهم تنطوي على حقد عظيم على هذا الدين الذي أزال دولهم الظالمة الكافرة.
وبما أن لقب الإنسان الكامل غريب على المجتمع الإسلامي تحاشوا أن يصطدموا به فاتخذوا بدلا منه لقب الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي. فإذا سمع السامع هذا اللقب تبادر إلى ذهنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أعظم شخصية في تاريخ المسلمين هو محمد صلى الله عليه وسلم، وله خصائص ليست لغيره بإجماع المسلمين، وكثير من المسلمين ممن عدم الفقه والعلم لا يمانع من الزيادة والغلو في حقه عليه الصلاة والسلام.
هنا وظّف هؤلاء هذه الشخصية لإبراز فكرة الإنسان الكامل من خلالها.
فقالوا عن رسول الله أنه:
أول موجود فاض عن الله تعالى كما يفيض نور الشمس عن الشمس، وهو نور ونوره ممتد إلى جميع ذرات الكون، وكل العلوم قطرة من بحره، وهو محل نظر الإله، له شبه بالصفات الإلهية والصفات البشرية، فهو واسطة بين الخالق والخلق. فصارت الحقيقة المحمدية هي حقيقة الإنسان الكامل بغير فرق.
إلا أنهم ومحاولة منهم لترويج تلك الفكرة الفلسفية حرّفوا الآيات واختلقوا الأحاديث للتدليل عليها(الحقيقة المحمدية = الإنسان الكامل).
والذي يثبت هذا التوافق ما يرد في أقوالهم وأشعارهم من أوصاف غالية في حق النبي الكريم لا يمكن أن تفسر إلا من خلال فكرة الإنسان الكامل، وهانحن نورد طرفاً منها.
يقول ابن عربي: "بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية" (الفتوحات المكية 1/118) .
ويقول الحلاج: "أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم. همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم. العلوم كلها قطرة من بحره، والأزمان ساعة من دهره" (الطواسين 13) .
وقال ابن الدباغ: "اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضاً من نور محمد، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليه لتهافتت وتساقطت" (هذه هي الصوفية ص87 نقلا عن محبة الرسول ص203) .
يقول البوصيري في البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ***
سواك عند حدوث الحادث العمم
فإن من جودك الدنـيا وضــرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
فإن من جودك الدنـيا وضــرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
هذه هي الحقيقة المحمدية عندهم، فكل كلماتهم وأشعارهم تنطق بحقيقة الإنسان الكامل لايجادل في ذلك إلا جاهل أو ماكر، وهم وإن كانوا قد استتروا خلف هذا اللقب المحمدي زمناً إلا أنهم عادوا وحنّوا إلى لقبهم القديم فصاروا يصرّحون به.
فهذا إمامهم الأكبر ابن عربي الطائي يطلق لقب الإنسان الكامل في كثير من مؤلفاته وله مؤلف بعنوان: (الإنسان الكلّي) ، وهذا عبدالكريم الجيلي وهو منهم يضع كتابا بعنوان: "الإنسان الكامل"، وهناك آخرون غيرهم قدماء ومحدثون.الإنسان الكامل، الحقيقة المحمدية، مرتبة عامة. وإن المدقق في أقوالهم وأحوالهم يعلم يقيناً أنهم لا يعظّمون رسول الله ولا يحبونه، بل يتخذون محبته ذريعة إلى تحقيق فكرة الإنسان الكامل بين المسلمين. ولذا فإنهم عندما يطلقون لقب الحقيقة المحمدية أو غيره مما يقوم مقامه لايقصدون به ذات النبي عليه الصلاة والسلام خاصة، بل كل ذات تتحقق فيها الأهلية -حسب شروطهم- لأن تصير في مرتبة الإنسان الكامل.
فليست هذه المرتبة حكراً على النبي أو غيره من البشر، بل هي مشاعة ينالها كل من هذّب نفسه وصفّاها على طريقة فلسفية خاصة، حتى تصل إلى مرحلة الاتحاد بذات الله تعالى كما يقولون، تعالى الله عما يقولون، فإذا صارت كذلك نالت مرتبة الإنسان الكامل.
لذا فإنهم يعتقدون في مشايخهم ما يعتقدونه في الإنسان الكامل، فهم نور، وهم يعلمون الغيب، ويدبرون شؤون الكون، ومن هنا نفهم لماذا يصرون على تعظيم أولئك المشايخ هذا التعظيم الغالي، الذي لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين.
يقول الجيلي: "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم يليق بلباسه في ذلك الزمان. فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم هو في صورة شيخي إسماعيل الجبرتي" (الإنسان الكامل 2/73) .
قال بعضهم:
كل النبيين والرسل الكــرام أتــوا
*** نيـــــابة عنه في تبليغ دعـواه
فهو الرسول إلى كل الخلائق فـي *** كل العصور ونابت عنه أفواه
(النفحات الأقدسية للبيطار ص17)
.فهو الرسول إلى كل الخلائق فـي *** كل العصور ونابت عنه أفواه
وإذا كنا قلنا إنهم لا يحبون رسول الله حقيقة، بل يتخذون المحبة ستاراً لغاية علمناها من التفصيل السابق، فإننا نشير كذلك إلى أن لهم غاية أخرى يتوصلون إليها بهذه الدعوى ألا وهي: تعظيم ذواتهم، وإستذلال العباد، وتسخيرهم في شهواتهم.. وذلك حين يزعمون أن ذواتهم تمثل الحقيقة المحمدية، وقد مهدوا لذلك بقولهم إن هذه الحقيقة تظهر في كل زمان ومكان في صورة ولي من الأولياء.
ولعل هذا هو السبب الأول في الدعوة إلى محبة الرسول، -فهم ينتقلون منها إلى تعظيم ذواتهم-.
يظهر ذلك جلياً من حيث إنهم لا يقفون عن حد الاحتفال بمولد النبي الكريم والتوسل به وشد الرحل إلى قبره، بل: "يجيزون ويدعون إلى الاحتفال بمولد كل شيخ من مشايخهم والتوسل بهم وشد الرحل إلى قبورهم للتضرع والسؤال".
كما هو معلوم، تحت اسم الولاية والتعظيم وطلب البركة.
ولو فرضنا صدقهم لكان ينبغي لهم ألا يشركوا أحداً مع رسول الله في تلك القضايا الثلاث، ولو كانوا صادقين لنهوا أتباعهم عن دعاء النبي وسؤاله ما لايقدر عليه إلا الله، وحينذاك نقول: إنهم صادقون في المحبة، مخطئون اجتهادهم.
لكنهم ما فعلوا هذا ولا ذاك، بل جعلوا لكل شيخ مرتبة تضارع مرتبة النبي وتفوقه حتى تصل إلى مرتبة الإله، وأذنوا في تقديم القربات إليهم من دون الله، فهم مشركون زنادقة متبعون لأهواءهم:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
(تلك هي الحقيقة.. لكن كثيرا منهم لا يعلمون)
فهذه هي حقيقة محبة رسول الله عند هؤلاء القوم، كما رأينا:
ليس فيها إلا تعظيم الذوات وإحياء دين الفلاسفة الوثنيين من فرس وهند ويونان، وفكرتهم تناقض الإسلام. فليس أحد فاض عن الله، بل كل الموجودات مخلوقة لله تعالى ليست من ذاته ولا من نوره، وليس أحد من خلق الله يملك علم اللوح والقلم، ولا يقدر أحد على التصرف في الكون.
فمعتقد هذه الاعتقادات كافر بالله تعالى، والحق أن كثيرا من أتباع هذه الفكرة لا يدركون حقيقتها، وكثير من الذين يحتفلون بالمولد لا يعلمون أصل هذا الأمر.
بل كثير منهم صادقون في محبتهم وشعورهم تجاه الرسول لكنهم مخطئون حين لم يلتزموا المحبة الشرعية القائمة على الاتباع.
لكن البلية فيمن يعتنق هذا الفكر الإلحادي ويدعو إليه متخذا محبة رسول الله ستاراً.
فهذا أصل الضلالة مصدر الغواية، إذن هذه هي الحقيقة، فمن جادلهم فليجادلهم فيها، وليحذر من الخديعة والحيلة فيظن أن القضية قضية مولد أو توسل أو سفر إلى قبر، بل القضية أخطر من تلك بكثير كما قد رأينا.
أبو سارة
[email protected]
المصدر: أبو سارة - موقع صيد الفوائد
- التصنيف:
nada
منذ