المسجد الأقصى والجهاد في سبيل الله
لا ينبغي فحسْب أن نعالج قضية المسجد الأقصى على ما دعت إليه الرسل، وإنما ينبغي أن نعالج سائر قضايانا على ما دعت إليه الرسل، سواء دقَّت تلك القضايا أو كبرت؛ لأن الله عز وجل أرسل نبيه الخاتم بدين وصفه بالكمال، وأتمه رب العزة سبحانه وتعالى، ورضي لنا الإسلام دينًا، فلا يكون من خير إلا هو موجود في هذا الدين.
المسجد الأقصى واسمه مسجد إيليا، ويطلق عليه كذلك بيت المقدس، والبيت المقدس من التقديس، وهو التطهير. وهو قبلة المسلمين الأولى، حيث صلوا إليه سبعة عشر شهرًا.
وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه قبل الهجرة، ونـزل فيه قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل لبيت المقدس، فصلى فيه ركعتين.
وهو ثاني مسجد وضع في الأرض؛ لحديث الشيخين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: «
». قلت: ثم أي؟ قال: « » قلت: وكم بينهما؟ قال: « ».دعوة المرسلين:
إن دعوة الرسل هي دعوة التوحيد أن اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأرسل الله تعالى بها نوحًا إلى قومه، وأرسل بها كل نبي بعده إلى قومه، يقول تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وقال يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38]، ويقول سبحانه عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، ويقول سبحانه:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 84-87]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، فالدعوة لعبادة الله وحده وترك عبادة كل ما يعبد من دونه، وترك الغلو في الموتى من الصالحين، والغلو في قبورهم هي دعوة كل الأنبياء والمرسلين، وهي الدعوة الكاملة التي أمر بها كل الرسل، وجاءوا بها شريعة من عند الله تعالى.
فإن دعوة الرسل هي دعوة الله رب العالمين الذي خلق الخلق، ولم يتركهم هملاً وإنما أرسل إليهم أنبياء ورسلاً، وأمرهم أن يتبعوا منهج الأنبياء، ووعدهم إن هم وفوا بذلك بالنصر والتأييد والتمكين.
لذلك، فإنه لا ينبغي فحسْب أن نعالج قضية المسجد الأقصى على ما دعت إليه الرسل، وإنما ينبغي أن نعالج سائر قضايانا على ما دعت إليه الرسل، سواء دقَّت تلك القضايا أو كبرت؛ لأن الله عز وجل أرسل نبيه الخاتم بدين وصفه بالكمال، وأتمه رب العزة سبحانه وتعالى، ورضي لنا الإسلام دينًا، فلا يكون من خير إلا هو موجود في هذا الدين، وإن بعض الناس يحلو لهم أن يقولوا: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، والعبارة وإن كانت صحيحة إلا أنها قاصرة؛ لأنها تفسح لمن يريد أن يقول إن غير الإسلام صالح، لكن الذي ينبغي أن نقوله: إنه بالإسلام وحده يصلح كل زمان ومكان، أي أن الفساد يحل إذا انتهجنا أي منهج غير منهج الإسلام فلا تحل تلك المشكلات، ولاتزال هذه المفاسد قائمة، ولاتزال إلا بأن ننتهج دين الإسلام.
للإسلام ثوابت شرعها رب العزة سبحانه لأنبيائه ورسله ومن تبعهم من خلقه، أولها: الإيمان بالله، وإن الله لا يحدث في كونه إلا ما أراده وقدَّره، فهو سبحانه وتعالى القهار، يقهر من يشاء، وهو المعز يعز من يشاء، وهو سبحانه المذل يذل من يشاء.
ومن ثوابته أن الله جعله الدين الخاتم، وجعله دين الجهاد، وهذه مسألة ينبغي ألا تُنسى ونحن نعالج قضايانا، فالإسلام دين جهاد، والجهاد يكون بالقلب واللسان واليد، والجهاد يكون جهادًا للعدو الكافر، وجهادًا للمنافقين، وجهادًا للعصاة، وجهادًا للشيطان، وجهادًا للنفس.
يقول ابن القيم: "جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو لخواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلين عددًا فهم الأعظمون عند الله قدرًا".
جهاد النفس وجهاد العدو:
وجهاد النفس مقدمة جهاد العدو، فمن لم يجاهد نفسه لتلتزم بالشرع فتعمل به وتقف عند حدوده لم يمكنه أن يجاهد عدوه، بل إن خروجه للجهاد قبل بلوغ مواطن النـزال إنما هو من جهاد النفس على ذلك؛ ففي حديث أحمد عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: « » .
وجهاد الشيطان في تزيينه للشهوات، وفي تلبيسه بالشبهات؛ لأنه العدو الذي لا تتحول عداوته ولا يستمال جانبه؛ لذا قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:5]، فالعبد مأمور ببذل الجهد في التخلص من حيل الشيطان، وإن من أعظم ذلك الدخول في حوزة الرحمن بالاستعاذة به من الشيطان، وإن ثمرة ذلك جهاد العدو الكافر بالسيف والسنان طلبًا للخير والعطاء من الديان.
جهاد العصاة بالحكمة:
ومن الجهاد المشروع جهاد العصاة على الطاعة بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة السلاطين للحدود، والأخذ على أيدي المفسدين.
فهذه خمس صور من صور الجهاد: جهاد النفس، والشيطان، والعصاة، والكفار، والمنافقين، يدخلها الجهاد باليد واللسان والقلب.
و إنما ذكرت هذه الكلمات ليعرف المسلم أن الجهاد سمة دين الإسلام، وأن الجهاد ليس هو مجرد القتال، ولا بذل النفس، وإنما حدَّه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبًا ويقاتل حمية، فقال: « ».
فينبغي أن نعلم أن الجهاد إنما يكون بالقرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، وأن يكون الجهاد لرفع راية القرآن، ويكون الجهاد محكومًا بالأحكام التي جاء بها القرآن هذا، وإنَّ الحماسة كثيرًا ما تخرج أصحابها فيقدموا الخادم فيجعلوه مخدومًا، والتابع فيجعلوه متبوعًا؛ لذا كان بيان تلك الضوابط من أهم الأمور التي ينبغي أن نتواصى بها.
كل ذلك لأن دين الإسلام ما جاءنا إلا ليخرجنا من عبودية العباد إلى عبودية الله رب العالمين.
- التصنيف:
- المصدر: