خواطر حول السرقات العلمية!
إن كل من يرى واقع البحث العلمي اليوم وما فيه من استشراء لوباء السرقة والإخلال بالأمانة العلمية يدرك أن التشدد في هذا الباب أولى وسد الذرائع أجدى من فتحها.
1 - مع ثورة المعلومات الحالية، ونشر الكتب المصورة والأبحاث على مواقع الانترنت كادت السرقات العلمية أن تكون أسهل من شرب الماء، وإن كان كشفها أيضا قد تيسر عن ذي قبل بمراحل كثيرة.
2- مفهوم السرقة العلمية غير مفهوم السرقة المالية المستوجبة للحد، وبين المفهومين فروق عديدة، وعلى سبيل المثال فإن من ينقل من رسالته للماجستير عشرات الصفحات دون إشارة لذلك في رسالته للدكتوراه يصدق عليه - في الأعراف العلمية - وصف السارق، بينما لا يتصور في السرقة المالية أن يسرق المرء من ماله.
3- ليس من حق كل أحد أن يضع من عنده مفهوما للسرقة العلمية ويجعل كل ما عداه من التقصير الذي يتسامح فيه وإلا تحول الأمر لفوضى لا ضابط لها.
4- في ظني أن مفهوم السرقة العلمية فضلا عن كونه محلا للاجتهاد فهو مما يتغير بتغير الأعراف العلمية والعادات المستقرة بين أهل العلم الأمناء والغيورين على حمى العلم من تسلط اللصوص وجناية الدخلاء.
5- هناك فارق كبير وجوهري بين واقع التصنيف العلمي قديما بأدواته وقواعده وأعرافه في التوثيق والعزو وبين الواقع العلمي المعاصر الذي استجدت فيه أعراف أخرى وقواعد مرعية في التوثيق والعزو ساعد عليها انتشار الطباعة وتوافر الكتب وسهولة الوصول إليها واتحاد طبعاتها وترقيمها، وكل هذا يجعل من الاحتجاج بصنيع المتقدمين غير دقيق وهو من قبيل القياس مع الفارق، وإذا كان من المقرر أن العادة محكمة والأعراف مرعية ما لم تخالف الشرع فهي في هذا الباب أولى.
6- ويزيد الفارق اتساعا بين الواقع القديم والمعاصر أن التأليف الآن يترتب عليه مغانم دنيوية واضحة من نيل الدرجات العلمية، والوظائف ذات الوجاهة والرواتب، وبيع الكتب والتكسب منها وحفظ حقوق الناشرين ومحاكمة من ينتهكها، بينما الغالب على التأليف عند المتقدمين الاحتساب وطلب الثواب من الله، ولم تكن الكتب في ذاتها تجلب لصاحبها مالا من بيعها لعموم الناس، والاستثناء القليل حينما يهديها مؤلفها لأمير أو عظيم فيجازيه على ذلك بمال أو إقطاع أو ولاية مدرسة أو خطابة أو إفتاء أو قضاء أو ما أشبه ذلك فكيف مع هذا الاختلاف يقاس أحد الواقعين على الآخر.
7- ليست الآفة في الأبحاث العلمية والكتب المصنفة مقتصرة على السرقة العلمية في صورتها الفجة والواضحة للعيان، بل السرقة دركات، وفنون متشعبة ومتطورة، وبجانب السرقة هناك التدليس بأنواعه؛ والإخلال بالأمانة العلمية؛ وتشبع المرء بما لم يعط؛ وإيهام التحقيق والتدقيق والفهم والإجادة، والسارقون والمدلسون والمتشبعون بما لم يعطوا أنواع وأشكال.
8- وإذا كان مفهوم السرقة قد يثير إشكالا وأخذا وردا فإن مفهوم الإخلال بالأمانة العلمية في ظني يمثل مظلة أوسع، وما أفهمه وأدرسه وأطبقه في التعامل مع الأبحاث والرسائل العلمية باختصار شديد أن كل ما يذكره الباحث في رسالته أو كتبه أو بحثه يجب ألا يخرج عن أحوال ثلاثة:
أ- نص نقله حرفيا فهذا لا بد أن يوضع بين قوسين ويعزى صراحة لقائله.
ب- فكرة أو كلام لآخرين يصوغه الباحث بأسلوبه ويقول عقب الانتهاء منه انظر كذا دون وضعه بين قوسين فنفهم أن هذه الفقرة مأخوذة بالمعنى لا حرفيا.
ج- ما خلا النوعين السابقين والأصل في هذا كله أنه من إنشاء الباحث وكده وحصيلة نظره وجهده وإذا ظهر أنه ليس له - مع انتفاء السهو أو الغلط غير المتكرر أو المطرد - فهذا إخلال بالأمانة العلمية، يحاسب عليه، ويؤمر بتعديله وعزوه لقائله.
9- وأخيرا فإن كل من يرى واقع البحث العلمي اليوم وما فيه من استشراء لوباء السرقة والإخلال بالأمانة العلمية يدرك أن التشدد في هذا الباب أولى وسد الذرائع أجدى من فتحها، والاحتياط خير من العفو والمسامحة مع تقدير كل حالة بظروفها والقرائن المحيطة به.
أما من أراد أن يتخلص من حرج وضع فيه فراح يقرر قواعد ويبحث عن مخارج من أفعال المتقدمين دون مراعاة لأثر ذلك على واقع البحث العلمي المزري أصلا، وتشجيع الأجيال الناشئة على التوسع في باب العزو دون توثيق أو ذكر بحجة أن السابقين فعلوا ذلك، فالله الموعد، وهو المطلع على النيات والسرائر، ونعوذ بالله أن نكون ممن إذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالإثم، ورحم الله أسلافنا الأماجد الذين أثر عنهم تلك المقولة الرائعة: من بركة العلم نسبته لقائله.
- التصنيف: