قُتِل الخرَّاصون.. في أبريل
أبو محمد بن عبد الله
ما هي بكذبة واحدة، بل لو وُزنَت لجاءت أطنانًا، ولو مُسحت لجاءت مَساحات، ولو أُهريقت لجاءت سيولًا جارفات.. إنها جميع كذبات الكذَّابين في هذا اليوم!! وهي وإن كانت من كل كاذبة كذبت فإنها أضعاف مضاعفة ..
- التصنيفات: مذاهب باطلة - قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله؛ أصدق البشر فؤادا ومنطقا ورؤيا.
ككل عام وكلما حل عليهم شهر أبريل يتقرب إلى الشيطانِ كثيرٌ من البشر بالكذب.. يسمونها الناس "كذبة أبريل" وما هي بكذبة واحدة، بل لو وُزنَت لجاءت أطنانًا، ولو مُسحت لجاءت في مساحات، ولو أُهريقت لجاءت سيولًا جارفات.. إنها جميع كذبات الكذَّابين في هذا اليوم!! وهي وإن كانت من كل كاذبة كذبت فإنها أضعاف مضاعفة كما قال تعالى في الربا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة:130], فاتقوا الله ولا تكذبوا كِذَّابًا مضاعفًا.. ويكفي أن الله تعالى قال: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10]؛ أي: الكذّابون.
وما بنا حاجة أن نُعلِّم الناس أن الكذب شيء قبيح، فالناس كلهم يعرفون ذلك، بل حتى بعض البهائم!! وإنما استزلهم الشيطان بما كسبوا من إطاعته واتِّباع خطواته التي نهاهم الله تعالى عنها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[النور:21] ومن هذا المنكر هذا الكذب الحاصل باتِّباع خطوات الشيطان.
إنَّ الكفار فكفار وكفى! مع أنهم على الصحيح مُخاطبون بفروع الشريعة أيضًا، لكن لا تُقبل منهم فروعها حتى يقيموا أصلها الأصيل وركنها الركين: الإيمان!
فما بال بني قومنا، والذين ينطقون بألسنتنا، ويُحسبون إلى الإسلام، ويُنسبون إلى قبلته؟
لقد صدق في أمتنا نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن؟!»(متفق عليه)، ها قد تحققت نبوءتك، وتقع فئام من أمتك في استمراء الكذب يا أصدق بشر! يا أصدق بشر.
لقد أمرتنا الشريعة بالصدق ونهتنا عن الكذب في غير ما آية أو حديث، كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119]، والآية بعمومها وشمولها، في القول والفعل والشعور، وفي الجد والمزاح.. وحسبك أنه أمر الله تعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»(مسلم، صحيح مسلم، برقم:[ 2607])، فأمر بتحري الصدق وتتبع مواطنه قولا وفعلا، ورغّب في عاقبته بالجنة، وتعليق وسام الشرف في قائمة عند الله من الصادقين، كما حذّر من الكذب وتحريه، وحذر من عاقبته بالنار، وبوسام الذلة والصغار والعار في قائمة عند الله من الكاذبين.
فكذبة أبريل أو غيره حرام بكل المقاييس، وعلى أي وجه كانت، وتحذيرا لأنفسنا ولمن شاء الله تعالى من المسلمين نذكر مساوئ هذه العادة المشينة، ومنها:
1- أن الكذب مذمومٌ جِدُّه وهزله، ولم يكن من صفته صلى الله عليه وسلم حتى في المزاح، فكما قال: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً»(الطبراني، المعجم الكبير)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له»(الترمذي، السنن، برقم:[ 2315]، وأبو داود، برقم:[4990])، وعن عن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أردت أن تعطيه؟» قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطه شيئا كُتِبت عليك كذبة»(أبو داود، السنن، رقم:[4991]).
2- أن الكذب سبَبٌ لحرمان العبد من صدق الرؤيا، فإن أصدق الناس لسانا أصدقهم جنانا، وهو أصدقهم رؤيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قرب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»(ابن ماجة، السنن، برقم:[3917])، والتي قد تحمله إليه البشارة، أو يُلقى بها في رُوعه خيرا يفعله أو شرًّا يحذره أو يجتنبه، أو أُنْسًا يتسلى بها في شدائد الدنيا.
3- أن الكذب يَحْرِم صاحبَه الفراسة، ويفقد الفرقان الذي يرزقه الله المؤمنين الصادقين، يميزون به الحق من الباطل حين يختفي الدليل، فتكون قلوبهم دلائل، ويرزقهم فراسة يعرفون به الأعداء من الأصدقاء، يميزون به خير الخيرين فيلتزموه؛ وشر الشرين فيجتنبوه..
4- أن الكذب بهذا الشكل يورث التعود عليه حتى يصبح ديدنا للمرء، والعياذ بالله، ثم إنه يعوِّد الأطفال ذلك وتتوارث القدوات الكاذبة الكذب!!
5- كثيرا ما أزهقت أرواح بسبب الكذب، فربما كذب جليس على جليس بقدوم سيارة خلفه فجأة أو وجود حية تحته فقفز فارًّا فوقع من عالٍ فمات، ومنهم من رمى نفسه من عمارة فمات.. بسبب مزحة كاذبة!
6- أنه مُذهب للمروءة، وكاسر للهيبة، وفيه كسائر الذنوب مساوئ عديدة، أطال فيها النفَس ابنُ القيم في الداء والدواء.
7- أنها بدعة لم يأت بها الإسلام حتى لو لم تشتمل على كذب؛ لأنها أصبحت في معنى العيد، لكونها ارتبطت بموعد معين تتكرر فيها، ويتفاعل معها الناس على هذا الأساس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد»(متفق عليه). وإذا كان أهل العلم يُحرمون ابتداع عيد المولد النبوي للنبي الكريم الشريف، لكونه لم يرد ولا بيوم بعثته، رغم أنها أيام البِشْرِ والصدق، فكيف بأعياد الكَذِب؟! فضلا عن أن بعض المؤرخين ذكر علاقتها بطقوس نصرانية.
8- أنّ فيها تشبها بالكفار، واقتداء بهم، وقد حذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأبلغ عبارة؛ فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم»(أبوداوود، السنن، برقم:[ 4031])، وقال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا إسناد جيد... وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]"[اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: 1/ 269]، وهذا من ناحية حرمة التشبه في ذاته؛ فإنها كانت مقصودة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما في حديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما يوما عيد المشركين، فأنا أحب أن أخالفهم»(أحمد، المسند، برقم:[ 26749]، وهو حديث حسن). والشاهد: « فأنا أحب أن أخالفهم».
9- وهي فرع عن السابقة، فيها التفريط في محبة النبي صلى الله عيه وسلم بترك ما يُحب، لأن مخالفتهم مقصودة للنبي محبوبة له، وتركها تركٌ للتأسي به، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. ومن التأسِّي به في مخالفة المشركين التي يحبها، كما سبق « فأنا أحب أن أخالفهم».
10- أن مخالفة أخلاقهم وعوائدهم في ذاتها مصلحة دينية وتربوية؛ ولو لم تكن في أمر دين. قال ابن تيمية رحمه الله: حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمرا اتِّفاقيا، ليس مأخوذا عنهم، لكان المشروع لنا مخالفتهم؛ لما في مخالفتهم من المصلحة - كما تقدمت الإشارة إليه - فمن وافقهم فوّت على نفسه هذه المصلحة، وإن لم يكن قد أتى بمفسدة، فكيف إذا جمعهما؟[اقتضاء الصراط: 1/ 478].
11- أن التشبه بهم في مثل هذه الأمور الظاهرة تجر إلى التشبه بهم في ما هو أضر وأخطر؛ وقد يبلغ حتى الارتداد عن الدين -والعياذ بالله-، أو الوقوع فيما هو كفر وشرك، لأن للظاهر علاقة بالباطن، ويحصل منه تجاذب وتقارب، وولاء وذوبان، كما يقال في المثل: "الطيور على أشكالها تقع" لمجرد الأشكال! وكذلك الاختلاف الظاهر يوجب تنافرًا باطنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تسوية صفوف الصلاة: «استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم»(مسلم، الصحيح، برقم:[432]). فجعل اختلاف الظاهر ومواقع الأقدام سببا مُعقَّبًا بفاء العلة والسببية لاختلاف الباطن، وكذلك التشابه. قال ابن تيمية رحمه الله: "المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكُلا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا لذلك، إلا أن يمنعه مانع"[اقتضاء الصراط: 1/93].
12- سبب لضعف الإيمان ودليل عليه: لأن التشبه بهم في مثل عوائدهم المعتادة كعيد الكذب هذا، وهو عيد أضحى عندهم، ويسمون أصحابها "ضحايا أبريل" لأنهم يقعون ضحايا للكذب وما قد ينجر عنه، واحتراف الكذب والتفنن فيه، والتسابق لأحسن كذبة، هو من قلة الإيمان بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى بصيغة تشبه الحصر: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النحل:105]، فكلما زاد المرء كذبا كان ذلك دليلا على قلة إيمانه وضعف دينه، وكلما زاد منه زاد هبوطا في الإيمان وسوءًا في التدين.
13- سبب لضعف الشخصية والتعلق بالمذموم، ودليل عليه. لأن الشخصية القوية تدعو للاقتداء بها، وتبغي بسط نفوذها في الناس، وبعث روحها في الأجساد المغلوبة، أما الشخصية الضعيفة فهي دائما تحاول تقمُّص شخصيات الأقوياء في نظرها، وترضى أن تكون ذيلا تابعا لا رأسا متبوعا، وعبدا طائعا لا سيدا مطاعا، وقِردا مُقلِّدا. قال ابن خلدون: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه ... وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبّهين بهم دائما؛ وما ذلك إلّا لاعتقادهم الكمال فيهم"[تاريخ ابن خلدون: 1/ 184].
14- أنه يُنبي بالإعجاب بأصحاب هذه الأعياد والعلائق والأخلاق، رغم أنهم أهل ملل كفرية، بل ويورث الإعجاب بهم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:85].
15- يُخشى على صاحبه الكفر حين يتمادى فيه إلى أن يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يُكذِّب، أو يستحل الكذب وهو مُحرّم مُجَرِّم: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}[النحل:116].
والله أعلم، وصلى الله وسلم على الصادق المصدوق، الذي لا يقول إلا حقا ولا ينطق إلا صدقا
30/ 03/ 2016