شرح حديث «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

منذ 2016-04-03

عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» رواه مسلم (صحيح مسلم؛ برقم: [106]).

بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن والعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم:

• عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [106]).

• وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» (صحيح مسلم؛ برقم: [107]).

• وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [108]).

أولًا: ترجمة راويي الأحاديث:

أبو ذر رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان.

وأما أبو هريرة رضي الله عنه فتقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.

ثانيًا: تخريج الأحاديث:

حديث أبي ذر أخرجه مسلم حديث [106]، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود في (كتاب اللباس؛ باب ما جاء في إسبال الإزار) حديث [4087]، وأخرجه الترمذي في (كتاب البيوع؛ باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبة) حديث [1211]، وأخرجه النسائي في (كتاب الزكاة؛ باب المنان لما أعطى) حديث [2562]، وأخرجه ابن ماجه في (كتاب التجارات؛ باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع) حديث [2208].

وأما حديث أبي هريرة الذي يليه فأخرجه مسلم حديث [107] وانفرد به.

وأما حديث أبي هريرة الآخر فأخرجه مسلم حديث [108]، وأخرجه البخاري في (كتاب المساقاة؛ باب إثم من منع ابن السبيل من الماء) حديث [2358]، وأخرجه ابن ماجه في (كتاب التجارات؛ باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع) حديث [2207].

ثالثًا: شرح ألفاظ الأحاديث:

«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ»: العدد ثلاثة في الأحاديث لا يراد به الحصر، بدليل أن مجموع من يدخل في هذا الوعيد في الأحاديث الثلاثة تسعة أصناف، وجاء غيرهم في أدلة أخرى؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]؛ فالوعيد في هذه الأحاديث جاء مثله من الوعيد في كتاب الله جل وعلا.

«لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»: جمهور المفسرين على أنه لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرهم ويرضى به عنهم، وهناك أقوال أخرى، هذا أصحها والله أعلم؛ لأن الله عز وجل يكلم أهل النار وهم في النار، لكنه كلام ليس على سبيل الرضا، فيقول تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].

«وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»؛ أي: لا ينظر إليهم نظرًا خاصًّا، بل يعرض عنهم، فلا ينظر إليهم نظر رحمة ولطف، وإنما النظر العام؛ فإن الله ينظر إلى كل شيء سبحانه.

«وَلَا يُزَكِّيهِمْ»؛ أي: لا يطهرهم من الدنس، ولا يُثني عليهم خيرًا.

«وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»؛ أي: مؤلم وموجع.

"خَابُوا وَخَسِرُوا"؛ أي: من الخيبة، وهي الخذلان في ذلك الوقت، وهذه خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.

ما تقدم هو بيان لألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، وهي ألفاظ كررها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثلاثة، وأما الأصناف الذين يدخلون تحت هذا الوعيد فسيأتي ذكر كل واحد منهم على حدة في الفوائد بإذن الله تعالى.

رابعًا: من فوائد الأحاديث:

الفائدة الأولى:

أحاديث الباب دليل على عظم جرم من وقع في واحد من الأصناف المذكورة، وهذا يدل على أنها من كبائر الذنوب، وعقابه من الله عز وجل بأن يحرم من ثلاث، ويعطى واحدة؛ فيُحرَم من تكليم الله عز وجل له، والنظر إليه، وتزكيته، وله واحدة وهي عذاب أليم، فيا لها من خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذا قال أبو ذر -كما في حديثه-: "خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟"، ولعظم وفظاعة هذه الخسارة كررها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي ذر ثلاث مرات.

الفائدة الثانية:

في الأحاديث إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله عز وجل يتكلم، وأن كلامه بصوت وحرف، وأن القرآن كلامه منزل غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية؛ فهو متكلِّم سبحانه، ولم يزل متكلمًا، والأدلة على ذلك كثيرة:

أولًا: من القرآن وهي كثيرة، ومنها:

1. قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} [النساء من الآية:164].

2. وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة من الآية:6].

3. ويصح أن نقول أيضًا، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة بأن الله يتكلم (كما سبق في الأدلة)، ويتحدث؛ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء من الآية:87]، ويقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وينادي: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].

ثانيًا: ومن السنة:

الأدلة كثيرة مستفيضة، منها أحاديث الباب، ومنها:

1. ما رواه البخاري ومسلم: حديث احتجاج آدم وموسى وفيه: «قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ الله بِكَلَامِهِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [6614]، صحيح مسلم؛ برقم: [2652]).

2. ما رواه البخاري ومسلم أيضًا: حديث قصة الإفك، وقول عائشة: ".. وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى" (صحيح البخاري؛ برقم: [4750]، صحيح مسلم؛ برقم: [2770]).

قال أبو بكر الخلال: "أخبرني علي بن عيسى: أن حَنْبَلاً حدثهم قال: قلت لأبي عبدالله (يقصد أباه أحمد بن حنبل): الله يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟! يكلم الله عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله متكلمًا، يأمر بما شاء، ويحكم بما شاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف يشاء، وأين شاء" (انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد: [1/288]، وانظر أيضًا فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: [12/304]).

الفائدة الثالثة:

في الأحاديث إثبات صفة النظر لله عز وجل، وهي صفة فعلية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران من الآية:77]، ومن السنة أحاديث الباب.

الفائدة الرابعة:

دلت أحاديث الباب على أصناف يدخلون تحت هذا الوعيد العظيم، فيُحرَمون من نظر الله عز وجل لهم، ومن تكليمه وتزكيته، ولهم مع ذلك عذاب أليم، وإليك هذه الأصناف مع شيء من الأحكام:

• أولًا: المسبل إزاره:

أولًا: تعريفه:

الإسبال في اللغة:

الإرخاء والإرسال، يقال: أسبل إزاره؛ أي: أرخاه وأرسله إلى الأرض؛ (انظر: الصحاح: [5/1723]، وانظر النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة: (سبل)).

الإسبال: هو إرسال الشيء من علو إلى سفل؛ كإسبال الإزار؛ أي: إرخائه (ويدخل في ذلك الثوب والسراويل -ومنه البنطال لمن لبسه من الرجال- والقميص والمشلح)؛ لأنها جميعًا تندرج تحت أصل واحد، وهو إرخاء اللباس وإرساله بحيث يتجاوز الحد المقرر في النصوص الشرعية.

قال الحافظ رحمه الله في فتح الباري: "وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار؛ لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبَسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي؛ قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأتِ النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال" (الفتح: [16/331]).

وقال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري [31/429]: "قوله: من جر ثوبه يدخل فيه الإزار والرداء والقميص والسراويل والجبة والقَبَاء، وغير ذلك مما يسمى ثوبًا، بل ورد في الحديث دخول العمامة في ذلك..."، وانظر أيضًا (عون المعبود: [9/126]).

وقال ابن باز رحمه الله: "فالواجب على الرجل المسلم أن يتقي الله، وأن يرفع ملابسه، سواء كانت قميصًا أو إزارًا أو سراويل أو بشتًا، وألا تنزل عن الكعبين، والأفضل أن تكون ما بين نصف الساق إلى الكعب" (مجموع الفتاوى والمقالات: [6/350]، وبدخول البنطال في الإسبال قال شيخنا ابن عثيمين والألباني رحمهما الله تعالى، وأيضًا من فتاوى اللجنة الدائمة في ذلك راجع الفتوى رقم: [9390]، [19600]).

ولا يخرج تعريف الفقهاء عن هذا، ومنهم من وسع مفهومه فجعله يتناول الكُم؛ كأن يرسل كمه على يده حتى يتعدى الرسغ إلى شيء من الكف، ومنهم من يضيف أيضًا في مفهوم الإسبال ليتناول العمامة أيضًا؛ كألا يزاد في طولها وعرضها، وألا تتدلى ذؤابتها أكثر من شبر، ومن يدخل الكم والعمامة يستدلون بحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف وأبو داود في السنن [4094] والنسائي [5349/3] وابن ماجه [3576]، وغيرهم من طريق عبدالعزيز بن أبي رواد عن سالم بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

قال أبو بكر بن أبي شيبة: "ما أغربه"، وقال الحافظ في (الفتح: [10/262]): "وعبدالعزيز فيه مقال".

وعبدالعزيز فيه خلاف؛ من أهل العلم من وثقه فقبل روايته، ومنهم من ردها، والحديث صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم: [3576]، والمشكاة برقم: [4332]، وصحيح الترغيب وصحيح أبي داود وغيرها من الكتب.

وسأسلط الضوء في هذه الأسطر على الإسبال في الثياب ونحوه؛ حيث إنها هي محور الحديث في الساحة اليوم.

ثانيًا: من الأحاديث الواردة في الإسبال:

أحاديث النهي عن الإسبال على قسمين:

• قسم مطلق: ومنه ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [5787]).

• وقسم مقيد بمن يجره خيلاء: ومنه ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا» (صحيح البخاري؛ برقم:[5788]، صحيح مسلم؛ برقم: [2087]).

• وقسم ورد في حادثة معينة اختلفت فيها وجهات النظر من حيث الاستدلال، منه ما رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم بعضه، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [5784]، صحيح مسلم؛ برقم: [2085]).

وهناك أحاديث أخرى لكنها تدخل ضمن أحد الأقسام السابقة.

ثالثًا: يستثنى من الخلاف أربعة أصناف:

قبل الشروع في الخلاف فإننا نستثني أربعة أصناف لا تدخل ضمن الخلاف، وهي:

الأول: من أسبل متقصدًا الخيلاء، فهذا بالإجماع أنه محرم، وأنه من كبائر الذنوب، فليس الكلام عليه في الخلاف القادم (انظر: المجموع: [3/176] [4/454]، المغني: [2/ 298]، وعده ابن حجر الهيثمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) من الكبائر؛ الكبيرة التاسعة بعد المائة: [1/351-354]، وانظر: طرح التثريب: [8/172]).

الثاني: من أسبل لضرورة لحقت به، فلا حرمة حينئذٍ، فهذا كمن أسبل إزاره على قدميه لمرض فيهما، ونحوه، وهذا كالترخيص في لبس الحرير للحكة ونحو ذلك، والقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، وأيضًا لا بد أن يؤخذ بقدر الضرورة؛ فالضرورة تقدر بقدرها.

الثالث: إسبال النساء؛ فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بإرخاء ذيول ثيابهن شبرًا، استحبابًا، لستر القدمين، ويرخين ذراعًا إن احتجن لذلك، وإسبال النساء جائز بالإجماع، بل هو مشروع لستر القدمين.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: «يُرْخِينَ شِبْرًا». فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: " «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» (جامع الترمذي؛ برقم: [1731])، رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواه النسائي.

الرابع: الإسبال لعارض عرَض له وليس قصدًا، فلا بأس حينئذٍ بإسباله حتى يزول ما عرض له من نسيان، أو استعجال، أو فزع، أو حال غضب، أو استرخاء مع تعاهد له برفعه، كما في قصة استرخاء إزار أبي بكر رضي الله عنه؛ إذ كان يسترخي لنحافة جسمه رضي الله عنه فينجر، فيتعاهده برفعه.

ويدل على ذلك:

1- ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلًا، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ".. الحديث (صحيح البخاري؛ برقم: [5785]).

2- ما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة حديث ذي اليدين في سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر وفيه: "وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ".. الحديث (صحيح مسلم؛ برقم: [574]).

3- ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [5784]، صحيح مسلم؛ برقم: [2085]). ففي هذا الحديث أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على ما قد يحصل منه من استرخاء إزاره من غير قصد عند عدم تعاهده، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الاسترخاء لا يدخل في الخيلاء، وليس بذريعة إليه، فلم يدخل في النهي.

4- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ..».. الحديث (صحيح مسلم؛ برقم:[343]).

رابعًا: الخلاف في حكم الإسبال:

اختلف العلماء في حكم الإسبال من دون خيلاء على قولين:

القول الأول: أن الإسبال بدون قصد الخيلاء ليس محرمًا، وهذا قول جمهور العلماء من المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على خلاف بينهم هل يكون مكروهًا أو جائزًا، ولكن لا يصل إلى حد التحريم.

واستدلوا:

1- بالأدلة السابقة ذكرها، وحملوا المطلق من الأحاديث في الإسبال -كحديث الباب مثلًا والأحاديث السابقة المطلقة- على الأحاديث المقيدة بمن يتخذه خيلاء، فقالوا: إن من يتخذه خيلاء هو المخاطب في جميع الأحاديث التي تنهى عن الإسبال.

2- الحديث الوارد في قصة أبي بكر؛ حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ».

ووجه الدلالة: أن المحرم من الإسبال هو ما كان للخيلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر.

• قال ابن قدامة في (المغني: [2/298]): "ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرم"؛ انتهى.

وقال النووي في (شرح مسلم: [14/62]): "لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق"؛ انتهى، (وانظر في ذلك: الآداب الشرعية لابن مفلح: [3/521]، والتمهيد لابن عبدالبر في: [3/244]، والمجموع للنووي: [3/177]، وشرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ ص: [361-362]).

والقول الثاني: أن الإسبال محرم مطلقًا، فإن كان خيلاء فهو أشد حرمة.

واختار هذا القول ابن العربي والقَرافي من المالكية، والذهبي وابن حجر من الشافعية، واختاره الصنعاني، وكتب في ذلك كتابًا سماه (استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال)، وهو اختيار أكثر علمائنا المعاصرين؛ كالألباني وابن باز، وشيخنا ابن عثيمين وابن جبرين والفوزان، وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء وغيرهم.

واستدلوا:

بالأحاديث السابقة؛ حيث جاء بعضها مطلقًا بدون خيلاء، وبعضها مقيدًا بالخيلاء، قالوا: ولا يصح حمل المطلق على المقيد؛ لأن لكل حال عقوبته الخاصة به.

وأما الحديث الوارد في قصة أبي بكر فهي حادثة عين وقعت لأبي بكر، فهي خصوصية له، من جهتين:
الأول: أن أبا بكر رضي الله عنه ذكر أن ثوبه بنفسه يسترخي، وهو مع ذلك يتعاهده، ومن يسبل إزاره اليوم يتعمد الإسبال، فلا يلحق هذا بهذا، فالذي يسترخي ثوبه من غير قصد كأبي بكر لا يدخل في هذا الوعيد، بخلاف من تعمد ذلك.

الثاني: أن أبا بكر شهد له النبي صلى الله عليه وسلم وزكَّاه بأنه لم يصنع ذلك خيلاء، ومن يسبل اليوم من الذي يزكيه؟

قال ابن العربي في (عارضة الأحوذي: [7/238]): "لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أتكبر فيه؛ لأن النهي تناوله لفظًا، وتناول علته، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكمًا فيقال: إني لست ممن يمتثله؛ لأن العلة ليست فيَّ؛ فإنها مخالفة للشريعة، ودعوى لا تسلم له، بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره، فكذبه معلوم في ذلك قطعًا"؛ انتهى.

وقال ابن حجر في (الفتح: [10/263]): "وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه..، وإن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء، وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبَس لِبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به"(وانظر في ذلك سير أعلام النبلاء للذهبي: [3/234]، والمصدرين السابقين في عارضة الأحوذي والفتح، ومحاضرة للألباني تحت عنوان: الألبسة والأزياء في الإسلام، وأيضًا فتاوى شيخنا ابن عثيمين: [12/252]، وفتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم: [3826]، وفتوى رقم [9390]).

مما سبق يتلخص ما يلي:

أن الأحاديث الواردة فيها نوعان من العقوبة:

الأول: تعذيب المسبل في النار، وهذا التعذيب يتناول جزأه الأسفل من الكعبين الذي وقع فيه الإسبال.
ويدل عليه: ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ».

الثاني: حرمانه من نظر الله له يوم القيامة وتكليمه وتزكيته له، وله مع ذلك عذاب أليم.

ويدل عليه: حديث الباب، وأيضًا ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا».

وموطن الخلاف بين القولين في:

هل يحمل المطلق على المقيد فتكون العقوبتان تتناولان حالًا واحدة، وهي من أسبل خيلاء (وهذا هو القول الأول)، أو أن العقوبتين تتناولان حالين مختلفتين: الأولى من أسبل بلا خيلاء، والثانية من أسبل مع خيلاء، فلا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم والسبب (وهذا هو القول الثاني).

والقول الراجح والله أعلم:

القول الثاني، وهو: أن الإسبال محرم على الإطلاق، فإن اتخذ ذلك خيلاء، فقد زاد العقوبة عقوبة أخرى.

ووجه الترجيح ما يلي:

أولًا: أنه من المعلوم عند الأصوليين أن حمل المطلق على المقيد إنما يكون إذا اتفق الحكم (وهو الفعل) والسبب، وأما إذا اختلفا فالأصوليون متفقون على امتناع حمل أحدهما على الآخر، ومسألة الإسبال ليست من هذا القبيل، ففي أحاديثها عندنا سببان وعقوبتان: السبب الأول: الإسبال وعقوبته النار، والسبب الثاني: الجر خيلاء -وهذا قدر زائدٌ عن الإسبال- وعقوبته ألا ينظر الله إليه؛ فالأحاديث المطلقة تبين حرمة الإسبال مطلقًا، وعقوبته النوع الأول من العقوبة السابق بيانها، والأحاديث المقيدة بينت عقوبة أخرى هي أشد من الأولى، وهي حرمانه من نظر الله إليه، وأما إذا أردنا أن نطبق حديث أبي ذر في الباب على قاعدة حمل المطلق على المقيد نجده حملًا صحيحًا؛ لأن العقوبتين لا تختلفان، فهما واحدة، ففي حديث الباب، وإن كان مطلقًا، لم يرد فيه الخيلاء، إلا أنه يحمل هنا المطلق على المقيد؛ لأن العقوبة واحدة، وهي حرمانه من نظر الله إليه.

ثالثًا: أن الخيلاء محرمة على الإطلاق، إلا في الحرب لإغاظة الأعداء، وسواء أسبل أم لم يسبل؛ فالخيلاء محرمة، وإذا كان الإسبال مباحًا، كما يقوله أصحاب القول الأول، فما فائدة قرنه بالخيلاء في الأحاديث الأخرى إذا علمنا أن الخيلاء في أصلها محرمة مطلقًا، فيكون ذكر الإسبال مع الخيلاء لغوًا، وهذا لا يقوله أحد؛ مما يدل على امتناع حمل المطلق على المقيد.

رابعًا: أن العقوبتين والحالين اجتمعتا في حديث واحد، وهذا من أقوى الأدلة في تحرير محل النزاع والله أعلم، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَلَا حَرَجَ أَوْ لَا جُنَاحَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ، مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ» (مسند أحمد؛ برقم: [11515]، وسنن أبو داود؛ برقم: [4093]، وسنن ابن ماجه؛ برقم: [3573]، وقال النووي في المجموع [4/ 456]: "إسناده صحيح"، وكذا صححه ابن دقيق العيد والألباني).

خامسًا: أن الخيلاء أمر قلبي لا يمكن لأحد أن يجزم به؛ لعدم اطلاعه عليه، وحينئذٍ لا يمكن لأحد أن ينكر على أحد؛ لأنه لا يعلم أفعله خيلاء أم لا؟ وحينئذٍ يتوجه السؤال عن الأدلة التي فيها إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على جمع من الصحابة، وهو القائل حينما قال له خالد بن الوليد رضي الله عنه: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» (صحيح مسلم؛ برقم: [1064]).

وأيضًا إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الغلام وهو في آخر لحظات حياته، وسيأتي إيراد الحديث، كيف يعرف الخيلاء حتى يتوجه الإنكار؟ ومتى نجزم أنهم فعلوا ذلك خيلاءً؟ كل ذلك يدل على أن أمر الخيلاء ليس شرطًا في حرمة الإسبال، وأن الأظهر والله أعلم أن الإسبال محرم مطلقًا، وهناك أوجه أخرى ذكرها أهل العلم وقالوا: هي في حد ذاتها تجعل الإسبال محرمًا؛ كالإسراف، والتشبه بالنساء، وملامسة النجاسة، ونحو ذلك من العلل التي ذكرها أهل العلم، وما تقدم من ذكر المسألة بأدلتها والخلاف فيها كافٍ بإذن الله لبيان الصواب.

قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "وأحاديث النهي عن الإسبال بلغت مبلغ التواتر المعنوي، في الصحاح، والسنن، والمسانيد، وغيرها، برواية جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: العبادلة هنا: ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأنس، وأبو ذر، وعائشة، وهبيب بن مغفل الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وسفيان بن سهلٍ، وأبو أمامة، وعبيد بن خالدٍ، وأبو جري الهجيمي: جابر بن سليم، وابن الحنظلية، وعمرو بن الشريد، وعمرو بن زرارة، وعمرو بن فلانٍ الأنصاري، وخزيم بن فاتك الأسدي - رضي الله عنهم أجمعين، وجميعها تفيد النهي الصريح نهي تحريم؛ لما فيها من الوعيد الشديد، ومعلومٌ أن كل متوعد عليه بعقاب من نار، أو غضب، أو نحوها، فهو محرمٌ، وهو كبيرةٌ، ولا يقبل النسخ، ولا رفع حكمه، بل هو من الأحكام الشرعية المؤبدة في التحريم، و[الإسبال] هنا كذلك..، ولو كان النهي مقصورًا على قاصد الخيلاء غير مطلق، لما ساغ نهي المسلمين عن منكر الإسبال مطلقًا؛ لأن قصد الخيلاء من أعمال القلوب، لكن ثبت الإنكار على المسبل إسباله دون الالتفات إلى قصده؛ ولهذا أنكر صلى الله عليه وسلم على المسبل إسباله دون النظر في قصده الخيلاء أم لا، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على ابن عمر رضي الله عنهما وأنكر على جابر بن سليم، وعلى رجل من ثقيف، وعلى عمرو الأنصاري، فرفعوا رضي الله عنهم أزرهم إلى أنصاف سوقهم، وهذا يدلك بوضوح على أن الوصف بالخيلاء، وتقييد النهي به في بعض الأحاديث، إنما خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الأغلب، فإنه لا مفهوم له عند عامة الأصوليين" (انظر: كتاب (حد الثوب والإزرة وتحريم الإسبال ولباس الشهرة)).

وأخيرًا:

هذا ما تيسر لي طرحه تحت هذا المبحث، ولا يسعني إلا أن أقول لمن كان مسبلًا: إني أنصحك كما نصح عمر بن الخطاب غلامًا، وعمر في لحظات فراقه لهذه الدنيا، فتأمل ما قاله، روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون -في قصة مقتل عمر رضي الله عنه- قال: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ -أي عمر رضي الله عنه- إِلَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ.. فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ،  -ثم ذكر قصة نقله إلى بيته ثم قال- وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ. قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ، قَالَ: ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ. (صحيح البخاري؛ برقم: [3700] جزء من الحديث).

وأنا أقول لك: يا أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، فيا لها من وصية نافعة جامعة بين طهارتين طهارة الثوب بتنقيته، وطهارة القلب بتقواه، وكم نحتاج اليوم أن نراعي طهارة قلوبنا ونلتفت إليها كما التفتنا لطهارة أبداننا وثيابنا، فالطهارة المعنوية هي التي نحتاجها اليوم، وتأمل متى كانت كلماته رضي الله عنه؟

إنها في آخر لحظات حياته، لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدلالة على الخير، فماذا نقول ونحن نرى تقاعسنا عن كثير من المنكرات التي ضجت في أوساطنا في المجتمعات والصحف والفضائيات؟ نصب الشيطان ونشر حبائله للعصاة، ففعلوا المنكر، وأهل الخير تقاعسوا عن الإنكار، وقُذف في قلوبهم الوهن والخوف والجبن وتوقع المحذور، ولا محذور في حقيقة الحال، لكن هو الشيطان في إغوائه والله المستعان، فيا لغرابة المنكرين للمنكر في هذا الزمان.

وأنت أخي المبارك ألا تسائل نفسك: ما هذا التقاعس عن الإنكار؟ لماذا تعتاد عينك على رؤية المنكر فلا تتعدى كونك تنكر إلا بقلبك وتأسف في نفسك؟ ولربما وصل الأمر في بعضهم أن يرى المنكر ولا يحرك في قلبه شيئًا، والله المستعان وعليه التكلان، فاجتهد أيها المبارك، وإياك وتخذيل الشيطان لك، واعلم أن هذا باب من أبواب الإيمان العظيمة التي تشرح الصدر، وتقوي العزيمة في النفس، جعلني الله وإياك ممن يعظمون حرمات الله، ويغضبون إذا انتهكت، والله تعالى أعلم.

• فائدة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلًا إِزَارَهُ إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ»، فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ»، فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَكَتَّ عَنْهُ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ، وَإِنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ» (رواه أحمد؛ برقم: [16896]، وأبو داود؛ برقم: [638]، وهو حديث ضعيف، أعله المنذري فقال: فيه أبو جعفر رجل من المدينة لا يعرف؛ انظر: مختصر سنن أبي داود: [6/51] للحافظ المنذري).

• ثانيًا: «الْمَنَّانُ»:

تعريفه لغة واصطلاحًا:

المن لغة: مصدر منَّ عليه منًّا، وله في اللغة أصلان: أحدهما القطع والانقطاع، ومنه قوله تعالى:{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين من الآية:6]؛ أي: غير مقطوع، والأصل الثاني: اصطناع الخير، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران من الآية:164].

والمن في الاصطلاح له ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: المن في الحرب، وهو: أن يترك الأميرُ الأسيرَ الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا؛ أي: إطلاقه بلا عوض، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد من الآية:4]، وهذا المعنى غير مراد في حديث الباب.

والمعنى الثاني: المن الفعلي، وهو أن يثقل الإنسان بالنعمة، وذلك في حقيقته لا يكون إلا لله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران من الآية:164]، وقوله: {كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} [النساء من الآية:94]، ومنه اسم الله عز وجل (المنان)، قال (الفيروزابادي) في القاموس المحيط: "والمنان من أسماء الله تعالى؛ أي: المعطي ابتداءً"، فالمن والمنة من صفات الله تعالى الفعلية الثابتة بالكتاب، كما سبق من الآيات، وفي السنة؛ كما في حديث أنس: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..» (رواه الأربعة، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني).

والمعنى الثالث: أن يكون ذلك بالقول، بأن يذكر الإنسان ما أنعم به على أخيه، وهذا هو المراد في حديث الباب، مثاله: كمن يعطي أحدًا عطاءً أو يشفع له في أمر ما أو يسدي له أي نوع من أنواع المعروف ثم يذكر هذا المعروف ويدلي به ويمن به، فيتأذى المعطى له، والمن أيًّا كان كبيرة من كبائر الذنوب، وصاحبها لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه، ولا ينظر إليه، وله عذاب أليم؛ (انظر: المفردات للراغب: [494]، وانظر نضرة النعيم [11/5563]).

ومن هذا النوع قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] (انظر: تفسير ابن كثير: [8/264]).

• لا يجوز المن بالصدقة، ويبطلها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ} [البقرة من الآية:264].

قال ابن عباس: "لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجله هنأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه".

• ثالثًا: «الْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»:

المُنفِّق: بتشديد الفاء؛ أي: المروج، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب: هو الذي يحلف كذبًا على سلعته من أجل زيادة الثمن.

مثال ذلك:
كأن يحلف بأن هذه السلعة جيدة وهي ليست كذلك.

أو يحلف بأنه اشتراها بكذا، أو رأس مالها كذا، وهو اشتراها بأقل.

أو كأن يعرض سلعة مخفضة ويحلف بأن سعرها قبل التخفيض كذا وهي ليست كذلك، وما أشبه هذا من الأيمان التي تزيد في قيمة السلعة.

حكم من حلف على سلعة كذبًا ليُنفِّقَها:

حكمه: محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لحديث الباب، فلا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، وهو مع ذلك جمع في يمينه أربعة أشياء:

1. استهانته باليمين ومخالفته أمر الله عز وجل بحفظ اليمين حيث قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة من الآية:89].

2. كذبه.

3. أكله المال الذي أخذه على هذه اليمين بالباطل.

4. أن يمينه من أعظم الأيمان جرمًا؛ فهي تسمى اليمين الغموس؛ فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» (صحيح البخاري؛ برقم:[2666]، صحيح مسلم؛ برقم: [138]، انظر: فتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم: [19637]، ومجموع فتاوى شيخنا ابن عثيمين: [10/380]).

حكم من كان كلما باع أو اشترى حلف وإن كان صادقًا:

هذا محرم أيضًا، وهو من كبائر الذنوب، ويدل على ذلك: ما رواه الطبراني من حديث سلمان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهُ لَهُ بِضَاعَةً، فَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ» (المعجم الصغير للطبراني؛ برقم: [821])، قال المنذري: رواته يحتج بهم في الصحيح.

قال شيخنا ابن عثيمين: "ومعناه أنه كلما اشترى حلف، وكلما باع حلف؛ طلبًا للكسب، واستحق هذه العقوبة؛ لأنه إن كان صادقًا فكثرة أيمانه تشعر باستخفافه واستهانته باليمين، ومخالفته قول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة من الآية:89]، وإن كان كاذبًا جمع بين أربعة أمور محذورة.." (نفس المرجع السابق).

حكم الحلف في البيع والشراء مطلقًا:

الأصل فيه أنه مكروه؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، وقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة من الآية:89]، وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [البقرة من الآية:224]، وحديث أبي قتادة مرفوعًا: «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ» (صحيح مسلم؛ برقم: [1607])، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» (متفق عليه، صحيح الخاري؛ برقم: [2087]، صحيح مسلم؛ برقم: [1606]، انظر: فتاوى اللجنة الدائمة نفس رقم الفتوى السابقة).

وإن كان الحلف لحاجة من غير إكثار، فلا بأس، والله أعلم.

• رابعًا: «شَيْخٌ زَانٍ»:

المقصود بالشيخ هو من كبرت سنه، وطال عمره، واختلط سواد شعره ببياضه؛ لكِبَر سنه.

• خامسًا: «مَلِكٌ كَذَّابٌ»:

الملِك: بكسر اللام المقصود به: الإمام الذي يتولى الأمر، وجاء عند النسائي: والإمام الكاذب.

• سادسًا: «عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»:

العائل: هو الفقير، يقال: عال الرجل فهو عائل إذا افتقر، والعَيلة: الفقر، وأعال، فهو معيل إذا كثر عياله.

والمستكبر: من الاستكبار، وهو الترفع والتعاظم، وهو على نوعين:

1. استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به.

2. واستكبار على الخلق بأن يحتقرهم، وهذا هو تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للكبر، كما روى مسلم حيث قال النبي: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [91])، وتقدم معنا شرح الحديث.

هؤلاء الأصناف الثلاثة (الشيخ الزاني والملك الكذاب والعائل المستكبر) جاؤوا في حديث واحد حديث أبي هريرة في الباب، وهو من مفردات مسلم، وكونهم أشد عذابًا مع عظم ما فعلوه؛ لأن كل واحد منهم فعل معصيته مع قلة الدواعي لهذه المعصية:

أ. فالشيخ، وهو الكبير في السن، قد بردت شهوته، وخفت إرادته، وهو مع ذلك بلغ أشده واستوى وعرف الحكمة وقرب أجله، وكل هذه دواعٍ لا يجد معها كبير مجاهدة ليحفظ نفسه من الزنا، وهو مع ذلك يزني، فهذا غريب جدًّا في حقه؛ لضعف الدواعي لذلك.

ب. والملك كذلك، وهو الإمام؛ فهو لا يخشى أحدًا من رعيته، ولا يحتاج إلى أن يداهن أحدًا ويتمصلح معه، فإن الإنسان ربما تدعوه نفسه للكذب حينما يخشى إنسانًا آخر أو عدوًّا يؤذيه أو يعاتبه، أو ربما يداهنه ليأخذ بذلك منفعة أو مصلحة، والملك غني عن ذلك كله؛ فالكذب منه غريب؛ لضعف الدواعي إليه.

ج. والعائل وهو الفقير على ماذا يتكبر؟ فإن غالب من يتكبر إنما يتكبر من أجل ما عنده من مال أو جاه، والثروة في الدنيا، وهذا سبب ليس عند الفقير، فكان الاستكبار منه شيئًا غريبًا؛ لقلة الدواعي لذلك؛ فهو المحتاج والناس ربما يكونون سببًا في سد حاجته، فكيف يتكبر عليهم ولا شيء لديه يتكبر من أجله؟ (انظر: كلام القرطبي في المفهم: [1/305]، وانظر كلام القاضي عياض في شرح مسلم للنووي: [3/299]).

يؤخذ من هذا الحديث: أن الذنوب تكون أشد جرمًا إذا كانت الدواعي إليها ضعيفة؛ لأن فيها علامة على استخفاف صاحبها بما حرم الله؛ ولذا كان الزنا والكذب والكبر مع أنها من كبائر الذنوب إلا أن الشيخ إذا زنى والملك إذا كذب والفقير إذا استكبر أشد جرمًا، فلا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، ويؤخذ من هذا أن الذنب الواحد يتفاوت في عظمته من حال إلى حال.

• في الحديث دلالة على فضل أضداد الأوصاف الثلاثة، وهذا يفهم من الحديث:

أ. فالشاب معلوم أنه يتمتع بحرارة غريزية وتغلبه الشهوة، إلا أن يحكمها، لا سيما مع صغر السن، فعقله لم ينضج ولم يستوِ، فحين تتوفر له دواعي الزنا يكون من أفضل الناس عند الله، ومصداق ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ».. وذكر منهم: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [660]، صحيح مسملم؛ برقم: [1031]).

ب. وكذلك الملك حين يكون صادقًا ناصحًا لرعيته أفضل عند الله عز وجل.

ج. وكذلك الغني حينما يتواضع للناس وللفقراء على وجه الخصوص، ولا يصده ما عنده من الثروة فيترفع على الناس، فهذه الأوصاف الثلاثة أوصاف فاضلة وأعلى شأنًا من غيرها فيمن كانت حالهم مثل حال الشاب لكنه متعفف والملك الصادق والغني المتواضع.

• سابعًا: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ»:

«رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ» أي: ماء فاضل عن حاجته وكفايته.
«بِالْفَلَاةِ»: هي المفازة، وهي القفر من الأرض؛ سميت بذلك لأنها فليت عن كل خير، وقيل: الصحراء الواسعة، وقيل: هي المستوية التي ليس فيها شيء (انظر: لسان العرب لابن منظور مادة: (فلا)).

«ابْنِ السَّبِيلِ»: هو المسافر، والسبيل: الطريق، وسمي المسافر بذلك: لأن الطريق تبرزه وتظهره، فكأنها ولدته، وقيل: سمي بذلك لملازمته إياه (انظر: المفهم للقرطبي: [1/306]).

• في الحديث دلالة على تحريم منع فضل الماء، وأن من منع منه ابن السبيل دخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، وهذا إذا كان ابن السبيل غير مضطر، وإذا كان مضطرًّا ومنعه فالحال أشد.

وجاءت أحاديث في معنى حديث الباب تختص بأحكام فضل الماء، منها: حديث جابر عند مسلم: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ" (صحيح مسلم؛ برقم: [1565])، وما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَأَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [2354]، صحيح مسلم؛ برقم: [1566])، لأن منع من أراد أن يشرب وينتفع بهذا الماء هو وبهائمه سبب في منعه أن تأكل بهائمه من الكلأ والعشب الذي حول هذا الماء الفاضل؛ لأنه لن يرعى بهائمه عند ماء يمنع منه، وسيأتي شرح هذين الحديثين في بابهما.

• من العلل التي من أجلها دخل مَن منع فضل الماء في هذا الوعيد ما رواه أبو داود وأحمد وابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» (سنن أبي داود؛ برقم: [3477]، مسند أحمد؛ برقم: [23551]، مصنف ابن أبي شيبة؛ برقم: [23655])، ولهذا الحديث شواهد يتقوى بها، والكلأ: العشب رطبه ويابسه.

• ظاهر الحديث أن الماء الفاضل عن الحاجة إذا كان بفلاة، وهل إذا كان ملكًا لشخص يدخل في هذا الوعيد؟

قال شيخنا ابن عثيمين: "فإن قال قائل: إذا كان هذا الماء الفاضل في حوزة صاحبه، يعني في التانكي -خزان الماء الحديدي- مثلاً، فهل يلحقه هذا الوعيد إذا منعه ابن السبيل؟ أما عند الضرورة، فالظاهر أنه يلحقه؛ لأن في هذه الحال يجب أن يبذله، أما في غير الضرورة، فالظاهر أنه لا يلحقه" (انظر: التعليق على صحيح مسلم: [1/356]).

• ثامنًا: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ»:

«رَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا»: جاء في رواية أخرى في الصحيحين «رَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا» (صحيح البخاري؛ برقم: [2672]، صحيح مسلم؛ برقم: [108])، والمقصود عقد البيع بين الرجلين.

«بَعْدَ الْعَصْرِ» أي: بعد صلاة العصر، وسيأتي سبب اختصاصه.

«فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا» أي: كذب فزاد في الثمن الحقيقي الذي اشترى به؛ لقوله:«وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ».

«فَصَدَّقَهُ» أي: إن المحلوف له صدق الحالف.

• في الحديث دلالة على تحريم الحلف على السلعة كذبًا لينفِّقها، وسبق بيان ذلك في حديث أبي ذر السابق، وبيان أن من فعل مثل ذلك فقد جمع عدة كبائر عظيمة.

• في الحديث تقييد هذا الوعيد بمن بايع بعد العصر وهو على تلك الحال من الكذب.

فاختلف في سبب تقييده بعد العصر على أقوال:

قيل: لشرف هذا الوقت بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار فيه، واختاره النووي (انظر: شرح النووي لمسلم: [2/300]).

قيل: لأنها الصلاة الوسطى وخصها الله بالمحافظة بعد عموم الصلوات الأخرى فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ} [البقرة من الآية:238]، ومن شأن الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت من الآية:45]، ومن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد إلا إثمًا، وإذا كان هذا في الصلوات عامة كانت الصلاة الوسطى بذلك أولى، وحقها في ذلك أكثر وأوفى، فمن اجترأ بعدها على اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير كان إثمه أشد، وهذا معنى كلام القاضي أبي الفضل الذي نقله القرطبي وأيده (في المفهم: [1/307]).

وقيل: لأن العصر وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، واختاره الخطابي.

وقيل: لأنه وقت ارتفاع الأعمال، واختاره ابن حجر (في الفتح: [5/349]).

ورد ابن حجر (في الفتح: [5/349]) القول الأول، وهو لكونه اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار، وكذلك رده القرطبي (في المفهم: [1/308])، وبين القرطبي أنه وجه بعيد لسببين:

الأول: لأن الملائكة أيضًا تجتمع في الفجر، ولم يكن كما بعد الفجر خصوصية ما بعد العصر من الوعيد؛ ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [7429]، صحيح مسلم؛ برقم: [632]).

والثاني: أن حضور الملائكة واجتماعهم إنما هو في حال فعل هاتين الصلاتين لا بعدهما، كما هو ظاهر نص الحديث، فإنه فيه «وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ» وتقول الملائكة: «تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [7429]، صحيح مسلم؛ برقم: [632]).

تاسعًا: «وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ»:

«لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا» أي: من أجل الدنيا.

«فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا» أي: إن أعطى هذا الإمام من بايعه من أغراض الدنيا ومصالحها.

«وَفَى» أي: جاء بما عليه من الطاعة والواجبات من أجل ما ناله من أغراض الدنيا، فجعلها معيارًا للمبايعة.

• في الحديث دلالة على أن من جعل مبايعته لإمام المسلمين من أجل مصالح وأغراض دنيوية فإن أعطي منها وفى ما للإمام من طاعة، وإن لم يعط منها خرج عليه، فإنه يدخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، والعلة في دخوله في هذا الوعيد الشديد؛ لأنه غاشٌّ لإمام المسلمين، والغش للإمام غش للرعية؛ لأن في ذلك سببًا لإثارة الفتن.

• في الحديث دلالة على أن الأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على الكتاب والسنة، لا على أغراض دنيوية، فيبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبايعه لحظوظ الدنيا من مال وغيره من المتاع؛ لِما في ذلك من الخسران الشديد، وفي هذا دلالة على أن كل عمل لا يقصد به وجه الله وأريد به عرض الدنيا، فهو فاسد وصاحبه آثم (وانظر كلام الخطابي في فتح الباري: [13/251]).

وهل يجوز لهذا المبايع لإمامه إذا بايعه على الكتاب والسنة أن يفي له إذا التزمها ويخرج عليه إذا خالفها؟

قال شيخنا ابن عثيمين: "لولا أن النصوص جاءت بمنع الخروج على الأئمة، لقلنا: إن هذا جائز؛ لأنه اتفق معه على هذا العقد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن جاءت النصوص بتحريم الخروج على الأئمة، إلا إذا رأينا كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان" (انظر: التعليق على مسلم: [1/357]).

هذه هي الأمور التسعة التي جاءت في الأحاديث الثلاثة وعقوبتها واحدة، وهي حرمانهم من نظر الله إليهم، وتكليمه وتزكيته لهم، ولهم عذاب أليم، وهناك أحاديث دلت على غيرهم في هذا الوعيد، أوصلها بعض أهل العلم إلى تسعة عشر، والله أعلم.

 

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)

عبد الله بن حمود الفريح

حاصل على درجة الدكتوراه من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عام 1437هـ.

  • 15
  • 3
  • 300,408

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً