في مجلس العزاء

منذ 2016-04-15

التعزية هي صورة من صور الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، وكم خفّفتْ من مصابٍ كان وقْعُه على المصاب كبيرًا!

يذكر لي أحدُ الإخوة أن فلبينيًا يعمل في إحدى الشركات في السعودية، فتوفي قريبُ زميله في العمل، فذهب ليعزي زميلَه وأهلَه، فدُهش من كثرة الحضور، وقال لزميله: هل كل هؤلاء المعزين أقاربك؟ قال: لا، بل أقاربي لا يمثلون إلا أقلّ من 25% من هذه الأعداد! فقال: والبقية؟ قال: هؤلاء إخواننا في الدين، جاءوا مواسين، ومخففين المصاب بالدعاء والشد من الأزر، فسأل الفلبينيُّ زميلَه عن كيفية الدخول في هذا الدِّين.

التعزية هي صورة من صور الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، وكم خفّفتْ من مصابٍ كان وقْعُه على المصاب كبيرًا!

ما أجمل تلك الدعوات التي يقولها المعزّي للمُعَزّى: «إِنَّ لِلهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» (صحيح البخاري؛ برقم: [1284]، صحيح مسلم؛ برقم: [923]).

ونحوها من العبارات التي تزيد الإنسانَ من اليقين بالصبر، والتذكير بحقيقةِ المصير، والحثّ على لزوم الاحتساب، الذي يزيد من أجور المصاب.

والتعزية كغيرها.. يعتريها بعض المنغّصات التي تكّدِّر صفوَها، ويقضي واجب النصح التنبيهَ عليها، ومن ذلك:

• من المعلوم أن الجلوس للعزاء من المسائل المختَلَف فيها بين أهل العلم رحمهم الله وليس مرادي ذِكر الخلافِ فيها، بل المقصود التذكير بأنها من مسائل الاجتهاد، فلا ينبغي التثريبُ على مَن أخذ بأحدِ القولين، شريطةَ تجنّب بعض المحاذير الشرعية  فيمن اختار القول بالجلوس  كصنع أهل الميت الطعامَ للمعزّين، أو الإسراف فيما يقدّم لهم، وكأن الناسَ في عرسٍ لا عزاء!

 

• التعزيةُ فرصةٌ لتقارب قلوب الأقارب، وتقليص مساحات الجفاء -إن وُجِدت- فليس من المقبول أن تنقلب هذه المناسبةُ إلى خصوماتٍ أو شقاقٍ مع أهل الميّت بسبب رغبةِ هذا وذاك في تقديم العشاء أو الغداء للمعزيّن وأهل الميت.

 

• يَحْسُنُ بالمصاب إذا لم يرَ بعضَ من يتوقع حضورَهم أو اتّصالهم مِن أقاربَ أو أصدقاء أو من لك حقٌّ عليهم أو زملاء عمل أن يلتمس العذرَ لهم، فقد يكون الخبر لم يبلغهم، أو مسافرون إلى أماكن بعيدة، أو مرضى لا يستطيعون الحضورَ ولا الاتصال، وكم حملت الأخبارُ مِن أعذارٍ لا تخطر على بالِ كثيرٍ منا!

أتذكّرُ أن أحدَهم عاتبَ شخصًا على غيابه، فقال المعاتَبُ: لقد أجريتُ عمليةً جراحيةً في القلب وأنت لا تَعلم، ولم تتصل بي، ولم أعاتبك! فاعتذر المعاتِبُ بأنه لم يعلم واستحى، فقال له صاحبُه: الناسُ كذلك لهم أعذارٌ قد لا تَبْلُغُكَ، وليس في كل حينٍ يستطيع الإنسانُ ذِكر عُذْره، فما أحسن أن نُوسّع دائرةَ العذرِ فيما بيننا قدْرَ الإمكان!

كما أنه ليس من المناسب أن تَتضاعَف المصيبةُ بحفر أخاديدَ من العتابِ واللومِ بين المصابِ ومَن سبق ذِكرهم، فإن هذا من مداخل الشيطان، ويمكن تجاوز ما قد يقع في النفس بمصارحةِ من يُستَكثر منهم التخلُّف، لكن بعدَ أيامٍ من المصيبة، فإن العاقل مَن التمسَ الأعذار، فإن لم يجد فليقل: لعل لهم عذرًا خَفِي عليّ.

 

• وفي محيط النساء، فإن بعضَ الأخوات حين تحضَر للعزاء لا تحقِّق المقصود من العزاء  وهو المواساة والتخفيف  بل تُخالِفه، فتكون بلسانِ حالها ومقالها مهيّجةً على تجديد الأحزان، وتعميقِ المصاب، ولمن تَعرف مِن نفسها أنها من هذا النوع الذي لا يَحتمل المصابَ فيمكنها الاعتياض عن ذلك باتصالٍ، أو بنقلِ المواساة برسالةٍ بالجوال، أو بغير ذلك من الوسائل المتاحة.

 

• قد يحصل أن بعضَ الناس لا تتيسر له التعزيةُ في وقتها المعتاد، فإذا ذهبتْ، وبرَدَت حرارتُها على قلوبِ أهل المصاب، فلا يَحسن التعزيةُ هنا بل لا تُشرع، لأن مقصدَ التعزيةِ هنا انتهى، ومِن جميل ما يُذكر ههنا: أن رجلًا لقي آخر قدأصيب بمصيبةٍ، فأبطأ عن تعزيته، فقال: لولا أن تجديد التعزية يجدد جزعًا في المصيبة، لعزيناك عمن مضى! (التعازي لأبي الحسن المدائني، ص: [98]).

وختامًا.. فما أحسن ما قاله بعض السلف معزيًا رجلا مات أبوه: ياهذا، إن كانت مصيبتك في والدك أحدثتْ لك عِظةً في نفسك، فنِعم المصيبة مصيبتك؛ وإلا فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بأبيك (التعازي لأبي الحسن المدائني، ص: [36]).

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.

  • 0
  • 0
  • 5,556

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً