كلَّما ازداد المرءُ علمًا.. ازداد بخَلْق الله رحمة!
رَوى الترمذيُّ وابنُ ماجه والدارميُّ وغيرُهم - في سُننهم -، من حديث سلَمة بن صخر البياضيّ - رضي الله عنه - وأصل الحديث في الصحيحين: "أنه كان قد ظاهَر من زَوجه - حرَّمها على نفسِه كظهر أمّه -، حتى يَنتهي شهر رمضان؛ خشية أن يَقع عليها في نهاره .. إلا أنه وقَع عليها!"
وفي بعض الروايات: أنه واقعَها في نهار رمضان وهو صائم.. ويَرى بعض الأئمة: أنهما واقعتان لا واحدة. فلمّا حصل ذلك، قال سلَمة رضي الله عنه: "فلما أصبحتُ غدوتُ على قومي، فأخبرتهم خبري، وقلت لهم: سلوا لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ما كنا نفعل، إذًا يُنزل الله فينا كتابًا، أو يكون فينا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولٌ، فيبقى علينا عارُه، ولكن سوف نُسلمك بجَريرتك، اذهب أنت، فاذكر شأنَك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال سلَمة رضي الله عنه: فخرجتُ حتى جئتُه، فأخبرته الخبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «
قال: « »، قلت: والذي بعثك بالحق ما أصبحتُ أملك إلا رقبتي هذه.
قال: « »، قلت: يا رسول الله، وهل دخل عليَّ ما دخل من البلاء، إلا بالصوم ؟! قال: « »، قلت: والذي بعثك بالحق، لقد بِتنا ليلتَنا هذه، ما لنَا عَشاء".
"قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك؛ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمْر، والعرَق: المِكتل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » قال: أنا، قال: « »، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟َ فوالله ما بين لابَتيها – يريد الحَرَّتين – أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي!
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بدَت أنيابُه، ثم قال: «
»".** زاد الدارميُّ في سُننه.. قال سلَمة: "فأتيتُ قومي، فقلتُ: وجدتُ عندكم الضِّيق، وسوءَ الرأي، ووجدتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، السَّعة وحُسن الرأي".
قلتُ: والشاهد في هذا الحديث، هو قول سلَمة: "وجدتُ عندكم الضِّيق، وسوءَ الرأي، ووجدتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، السَّعة وحُسن الرأي"..!
وذلك أنه حين وقع منه ما وقع، وخاف على نفسه تعدِّي حدود الله، فأتى قومَه خائفًا فزِعًا، يَرجو فيهم ما يُؤمِّنُه، ودعاهم للذهاب معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - حتى يسألوه ويَستفتُوه، ويَرَوا حُكم الله فيه!
إلا أنهم لجَهلهم؛ ضيَّقوا عليه، وقنَّطوه، وزجروه، بل وحمَّلوه مغبَّة ما قد يلحقهم من العار، بنزول آيةٍ أو حكمٍ من الله ورسوله فيه!
فلَم يَجد بُدًّا، أن أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم وحدَه، وكان من أمره ما كان..!
فما كان منه عليه السلام، إلَّا أن وَسعه بعلمه وحُنوِّه ورحمته وشَفقتِه، وصار يَتدرَّج معه في الكفَّارة التي يستطيعها، وحُقّ فيه قولُ الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
حتى خرَج سلَمة رضي الله عنه، من عِند رسول الله، بغير الوجه الذي أتاه به، وأتى قومَه مُتهلِّلًا فرِحًا، يُناديهم ويقول بلسان حالِه ومَقاله:
وجدتُ عندكم الضِّيق، ووجدتُ عند رسول الله السَّعة، ووجدتُ عندكم القَسوة، ووجدتُ عنده الرحمة، ووجدتُ عندكم الزَّجر، ووجدتُ عنده العُذر..!
**ومن هاهنا.. تُدركُ حقًّا: أنه كلَّما ازداد المرءُ علمًا.. ازداد بخَلْق الله رحمة، وكلما ازداد جهلًا.. ازداد بهم ضِيقًا وقَسوة! ويَرضى الله عن الثوريّ وكلّ قائل: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة - عالِم - وأما التشديد فيُحسنه كلّ أحد".
فتعلَّموا لتَرحَموا، وتفقَّهوا لتراحَموا .. فإنما الإسلام الرحمة! وأحكام الله وإن شقَّت على بعض النفوس، إلا أنها بالناس رحمةً ولُطفًا.. لا قسوةً و قَهرًا. والمُستمسكون بذا، مع الرّفق واللِّين .. هم الراحمون حقًّا، المَرحومون صدقًا.
- التصنيف:
- المصدر: