البعد الغيبي في توجهات السياسة الإيرانية

منذ 2010-04-09

هذه النظرة التي تتَّسم بالاستعلاء والفوقيَّة - كما ذكرنا - لم يستطعْ حتى الإصلاحيون - وعلى امتداد سنوات حكمهم الثماني - تجاوُزها، أو التخفيف من آثارها...

 


هناكَ حقيقةٌ مسلَّم بها، وهي أنَّ نجاح الثَّوْرة الإيرانية عام 1979م كان بمثابة إيذانٍ صريح لبداية عهد جديد في حياة الأمة الإيرانية.

وربما رأى الإيرانيون وغيرُهم - منَ المخدُوعينَ عندنا بالشعارات والعناوين الكبيرة - أن الثورة في مضمونها انقلابٌ إسلاميٌّ خالص، أعادَ الإسلام إلى سدَّة الحكم، بعد عقودٍ من حكمٍ علْماني مستَبدٍّ وعميل، والذي كان على رأسه الشاه المخلوع، غير أنَّ الواقع - ومنذ اللحظة الأولى - لمْ يكن يوحِي بذلكَ أبدًا.

وإذا تجاوَزْنا الإطار السِّياسي والاقتِصادي، ومُعطيات الساحة الداخلية الإيرانية والخارجية؛ ببُعدَيها - الإقليمي والدولي - والتي كانت بمُجملها أسبابًا مُهَيَّأةً لجوِّ التغيير، وَوَلَجْنا إلى قلبِ الفكر الموجه والمحرِّض على الثورة - ستبدو الصورةُ أكثر وضوحًا واكتمالاً؛ لأنَّنا بطبيعة الحال سنكونُ أكثر قُربًا من تلك المرجعيَّة الشمُوليَّة (المؤدلجة)، ذات الإطارِ المذهبي الأُحادي الضَّيِّق، والمتمَثِّلة في شخصِ الخُميني، قائد الثورة وإمامها الملهَم!

هذا الرجلُ الذي هو عصارة الفكر ألصفوي الفارسي، والمجسد الأمثل لكلِّ التوجُّهات التي تَتَبَنَّى موقفًا سلبيًّا منَ التاريخ الإسلامي وشخوصهِ ورُموزهِ العظيمة؛ بحيث تختزله في إطار زماني مكاني مُحَدد ومتَّسق مع توجُّهاته وتوجُّهات أسلافه وأحلافه أيضًا.

وهو مَن يَتَبَنَّى أطروحات فلسفيَّة باطنية المنْحى، يُحاول مِن خلالها تبرير نَهْجه العَقَدي المخالف لثوابت العقيدة الإسلامية الصحيحة، وهو كذلك مَن ينْتهج نهْجًا فقهيًّا يختزل فيه جُهد المدارس الإسلامية في هذا المجال؛ ليصبَّه في قالب ضيِّق يطرَح العديد منَ التساؤُلات والشُّبَه حول حقيقته، ومدى صِدْق تمثيله واتِّساقه مع توجهات مدرسة أهل البيت - رضوان الله عنهم جميعًا - التي يدَّعي إتباعها، والسَّيْرَ على خُطَاها
ومَن يَطَّلع على بعض مؤلَّفاته التي كتبها، سيعرف - وبوضوح - منْحى عقيدة هذا الرجل، وأصول فِكره القديم الجديد، ومشارب عقله، الذي خامره الهوى، ولابَسَه الوَهْم، ومِن هذه الكتب: "الحكومة الإسلامية"، و"كشْف الأسرار"، الذي هو عصارة فكره، ومنتهى علْمِه، ومنهجه في إثبات عقائده، فيما يَتَعَلَّق بقضايا التوحيد، والإمامة، وولاية الفقيه، والموقف من تاريخ الأمة ورجالها العِظام.

ومنذُ الأيام الأولى للثورة، حاوَلَ القائمون عليها ترسيخ مبدأ الدعْم الإلهي لها، وعلى ضوء النجاح الذي حققتْه الثورة آنذاك، كانت الحساباتُ العامة والخاصة قائمة.
حسابات الداخل بكلِّ تناقُضاتهِ وتقلُّباته؛ سواء ما كان منها إرثًا عنْ حقبة الشاه، أو ما كان أبعدَ من ذلك زمانًا ومكانًا.

وحسابات الخارج - وما نتج عنها مِن تداعيات - رسمتْ بوُضُوحٍ مسارًا صريحًا لمرحلةٍ جديدة، كانت في بدايتها أكثر طيشًا وتهوُّرًا واستهزاء بالآخر الضد؛ ولكنها سرعان ما انكَفَأَتْ إلى الوراء قليلاً؛ بفعل عوامل داخلية وخارجية، وأُجْبِر معها القادة الجُدُد على تغيير قواعد اللعبة وأشكالها، مع أن المضمون ظلَّ دائمًا يُشيرُ إلى نقطة الصِّفر.

إنَّ السياسة الإيرانية الخارجية والداخلية، ظلَّت - وما زالت - تستظل في توجُّهاتها العامة والخاصة، بظلٍّ غيبي يرجِع في الأساس إلى منظومة عقدية مذهبية، تَتَجَاوَز في إطارها العام الخط العقدي والمذهبي المشترَك مع بقية المدارس الإسلامية، ومصداق ذلك واضحٌ من خلال اعتماد فلسفة حكم، تقوم على فكرة: أنَّ الإمامة والولاية تكون في زَمَن الإمام المهدي الغائب بيد الفقيه، وهو ما عُرف بمبدأ ولاية الفقيه، والذي أشارتْ له المادة الخامسة والأساسية من الدستور الإيراني صراحة، وألمحت إليه بعض موادِّه أيضًا، تقول هذه المادة: "في زمن غيبة الإمام المهدي - عجّل الله تعالى فَرَجه - تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه المتَّقي، البصير بأُمُور العصْر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير".

ويُبَرِّر الخميني هذا التوجه في كتابه "الحكومة الإسلامية"، بقوله: "قد مَرَّ على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تَمُرُّ ألوف السنين، قبل أن تقتضي المصلحة قدُوم الإمام المنتَظر، في طول هذه المدة المديدة هل تبقَى أحكام الإسلام معطَّلة، يعمل الناس في خلالها ما يشاءون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟!"، ومن هنا نجد أنَّ للفُقهاء - وفْق هذا المبدأ - سُلْطة روحية وتنفيذية مستمَدة من هذا الإطار الغيبي، الذي يتجاوز في غُلُوِّه أي حدٍّ، واسمع إلى الخميني ماذا يقول عن نفسِه وأقرانه منَ الفقهاء، ويُساويهم ونفسه بالأنبياء والملائكة: "إنَّ مِن ضروريات مذْهبنا: أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه مَلَك مقرَّب، ولا نبي مُرسَل، ولنا - أي: الفقهاء - حالات لا يَسَعها مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل".

إنَّ هذا التصوُّر الخاص لنظام الحكم لَمْ يكن في نَظَرهم مجرَّد نظرية حكم، يُريدون تطبيقها وتسويقها في مُحيطهم الإقليمي والدولي - وهو ما أعلنوه صراحةً وما زالوا - بل هو في حقيقته معيارٌ حيٌّ، تقوم به الشعوب الأخرى، حتى الإسلامية منها، والعربية على وجْه الخصوص، والتي منَ المفروض أنْ تكون معها على نفْس الخط.

إنَّ هذا المعيار لا يعْكسُ حالة منَ الاعْتراف بوُجُود الاختلافات الطبيعيَّة بين الأُمَم والشعوب، بل ظلَّ دائمًا يُشيرُ إلى حالة منَ التعالي والنظرة الفوقية، ويشير بوضوح إلى شيوع منطق مركَّب في التعامُل مع الآخرين من المخالفين، وعلى اختلاف مسمياتهم وعناوينهم، وهو غير ذلك المعلن أو المدعَى، ولعل التجاذُبات الخطيرة والدامية، التي حصلت بين المملكة العربية السعودية وإيران، وعلى امتداد عهْد الخميني، حول قضية الحج والحجاج الإيرانيين، ومطالَبة الخميني صراحةً بنَزْع إشراف النظام في المملكة على الأماكن المقدَّسة - خير دليلٍ على توجُّهات هذا النِّظام، وطبيعة تعامُله ونظرته لمُحيطِه العربي الإسلامي.

هذه النظرة التي تتَّسم بالاستعلاء والفوقيَّة - كما ذكرنا - لم يستطعْ حتى الإصلاحيون - وعلى امتداد سنوات حكمهم الثماني - تجاوُزها، أو التخفيف من آثارها.
 
ومع نهاية عهدهم، ومجيء أحمدي نجاد - ربيب الثورة المدُلَّل - عادت الأمور في الكثيرِ من جوانبها إلى نقطة الصفر، ولتعودَ معها لغة الخطاب الثوري والحماسي المبشر بوعود نرجسية؛ استنادًا إلى تلك الفلسفة الغيبية، ذات الصبغة الإسلامية، التي تجعل من قضية المهدي ركيزةً أساسية للعمل الداخلي والخارجي، وتؤكِّد على تهيئة إيران تحديدًا؛ لتكون مستعدَّة لاستقبال إمامها الغائب، منذ أكثر من أحد عشر قرنًا.

ولعل هذا ما حدا بنجاد كي يَتَطَرَّقَ إلى هذه المسألة علنًا، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 - 9 - 2005، وكذلك كلامه المتكَرِّر عن أنَّ بركات الإمام المهدي واضحة على إيران، ولعلَّ الأزمة المتواصِلة لبرنامجهم النووي بكلِّ تداعياتها، وكذلك ثورة التسليح العسكري المتوالية الفصول، كلها تسير في ذات النسَق، وكذلك محاولاتهم لاختراق المحيط الإقليمي العربي تحديدًا، وعبْر البوَّابة المذهبية، واستغلالها لإيجاد مناطق نفوذ تستخدمها كأوراق ضغط على الخصوم المفترضين، ولعل لبنان والعراق أمثلة واضحة على هذا التوجه، وللأخير حصة الأسد في ذلك، إلى الحد الذي أقنع معظمَ العراقيين بأنهم يرزحون تحت احتلا لين، لا يقل شرُّهما عن الآخر.

إنَّ التوجُّه الغيبي في السياسة الإيرانية لا يحمل في طيَّاته بُعده المذهبي فقط؛ بل يبقَى العامل الفارسي - بكل ما تعْنيه هذه الكلمة مِن أبعاد حضارية وتاريخية، يعيها الإيرانيون جيدًا - حاضرًا دومًا، وكيف لا، وهم يرَوْن أرضهم الفارسية موطن الحضارة القديمة، وأرض الإسلام الذي يمثلونه، وأرض المخلص، والإمام الغائب، الذي سيظهر كي يخلصَ العالَم كلَّهُ من الشر، ولينشر مذهبه في رُبُوع الأرض، ولينتقم من كلِّ أعدائه، وأعداء أجْدادِه، منذ فجْر الإسلام، وإلى يوم مبعثه الميمون؟!

ومهما يكنُ من أمرٍ، وبِغَضِّ النظَر عن مصداقية هذه الدعاوى التي يراها جُلُّ الإيرانيين - بشَكْلها هذا - مسلَّماتٍ لا تقبَل النِّقاش، مع أنها بالتأكيد لا تصمد أمام النقْد العلمي البنَّاء، وحجج العقل المتَّزِن، غير أن الواقع يؤكد أن الكلام معهم فيها لا طائل منه أبدًا؛ لأنَّ القضيَّة تجاوَزت إطارها الفكري المجرَّد، وتحوَّلت إلى ممارسات رَسَخت أو رُسخت بقوة في العقول، والضمائر، والسلوكيات، وأدبيات الحياة الاجتماعية، والسياسية، والدِّينية الخاصة بهم منذ زمن.

وبطبيعة الحال لا شيء يمنَع من أن تعتَزَّ أية أمة بتُرَاثها وحضارتها - والإيرانيون منهم طبعًا - كجُزء من حالة الاعتزاز بالخصوصية، والهُويَّة الثَّقافيَّة؛ لكن الغريب والمرفوض أن يسخر هذا الاعتزاز بطريقة توسع الفجْوة بين الشعوب، وتَتَنَزل فيه السياسات إلى مستوى وضيعٍ، تصبح فيه أداة طيّعة لخدمة الأغْراض الخاصة لهؤلاء الساسة، أو لتلك الأنظمة، ولا ندْري هل يعي الإيرانيون أو ساستهم هذه الحقائق؟ وهل يدركون الفجوة الآخذة بالاتِّساع بينهم وبين المسلمين عمومًا، والعرب خصوصًا؟ والذين هم أشدُّ الناس تأثُّرًا بتقلُّبات السياسة الإيرانية غير الواضحة المعالِم.

إنَّ الظروف الدولية التي رافقت ظهور الثورة الإيرانية هي غيرها اليوم في زَمَن العولَمة والتكتُّلات السياسية والثقافية، وكذلك طبيعة توجُّهات الشارع الإيراني في الداخل، والذي عكست الأحداث الأخيرة فيه حالة بارزة من التَّمَلْمُل والنفور، والرغبة الأكيدة في التغيير والانفتاح على الآخرين في الداخل والخارج، ومحاولة الخروج من تلك العباءة الغيبية، التي تحوَّلتْ إلى أداةِ قهرٍ واستعباد، ولعل الأيام المقبلة حبلى - ولا شك - بالمفاجآت التي تطيح بعروش أولئك الذين يعيشون في ظلِّ أوهامهم التي لا تغني من الحق شيئًا.

وبقيَ أن نُشير لمسألة أخيرة:
وهي أن تعزيزَ الهُوية الثقافية والفكرية لأيَّة أمة يبقى مطلبًا منطقيًّا، بشرْط أن يعكسَ صورة مُشرِقة وحضاريَّة عن تلك الثقافة، وذلك التوجُّهِ الفكري، بعيدًا عنْ منطق التزْوير والأنانية والاستخفاف برأي الآخرين، ممن لا يتبنون هذه التوجُّهات والأفكار والمعتَقَدات، وهذا - مع شديد الأسف - ما لم نَرَه منهم، ولا أحْسَبنا نراه يومًا، طالما بقي الحال على ما هو اليوم.
 
بقلم :عمار المشهداني
[email protected]
المصدر: عمار المشهداني
  • 0
  • 0
  • 2,816

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً