عن الكبر والهوى وبطر الحق
تلك الثنائية التي تلخص كثيرًا من الجدل الواقع اليوم بين ذوي الاتجاهات والأفكار المختلفة؛ الكبر والهوى.
تلك الثنائية التي تلخص كثيرًا من الجدل الواقع اليوم بين ذوي الاتجاهات والأفكار المختلفة؛ الكبر والهوى
ثنائية لخصتها جملة قيلت يومًا في حق مسيلمة الكذاب حين تجلى كذبه لكل ذي أذنين وعقل يعي ويفهم؛ "وإن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر".
لقد أقرَّ المشركون في ذلك الزمان بكذب مسيلمة وسفاهة منطقه كما أقروا لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصدق في السياق نفسه. الصدق الذي طالما عُرف النبي به وطالما ظهر في كلامه وظهر أكثر من خلال الوحي المنزل من عند ربه يتلوه عليهم ويسمعونه ويؤثر فيهم، حتى يقول أحدهم عن ذلك الوحي "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه وما يقول هذا بشر".
هذه الكلمات الرائعة قالها عن القرآن رجل مشرك وهو الوليد بن المغيرة لكنه مع جمال وصفه للقرآن لم يتبعه!!
لم يتبع كتابًا شهد له بأنه يعلو ولا يعلى عليه ولم يؤمن لرسول رأى ورأى الملأ من حوله في خاص مجالسهم أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون وليس هذا الكلام الذي جاء به بالشعر ولا يشبهه، لكنهم مع ذلك آثروا هواهم وغلبت عليه شقوتهم وعصبيتهم.
تمامًا كما غلبت على قوم فرعون الذين قال الله عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، لقد استيقنوا صدق رسالة موسى في أنفسهم لكنهم مع ذلك جحدوها على الملأ واتبعوا أمر من استخفهم كما اتبع أقوام من بعدهم مسيلمة، وذلك لشيء يقال له الهوى.
الهوى الذي يعمي عن كل شىء آخر، يتفرع عن ذلك الهوى كل فروع التعصب والتحزب والأنانية التي لا تحرص إلا على مصالحها أيًا كانت السبل الموصلة لتلك المصالح ومهما فاحت رائحتها لتزكم أنوفًا صحيحة وتشمئز منها عقول مستقيمة، حين تدور المواقف تبعًا للمصالح، وحين تختلف الأحكام والتقييمات تبعًا للغضب أو الرضا، وحين تتباين المباديء تبعًا للولاءات ومواقع الناس من الشخص ومن فريقه فإن ذلك سيظهر لا محالة.
إن آجلًا أو عاجلًا سيظهر صارخًا بانعدام المصداقية وفاضحًا اختفاء الإنصاف وغياب عدالة التقييم
وحينئذ لن تكون تلك المواقف والتقييمات والمباديء التي يكثر التشدق بها فارقة أو ذات قيمة لأحد، ذلك لأنها صادرة عن فاقد للمصداقية يحركه الهوى يمنة ويسرة ويدفعه للتخلي عن أهم تلك المباديء والثوابت بصورة مذهلة.
ولكي يزول عجبك وتدرك حقيقة التخلي الرهيب عن تلك المباديء والشعارات التي طلما يتشدق البعض بها ثم يلقونها عند أول محك مسارعين إلى نقيضها؛ لابد أن تضع في اعتبارك تلك الطبيعة النفسية الموجودة لدى جل البشر إلا المتجردين المنصفين وقليل ما هم!
إنها طبيعة ترفض الاعتراف الضمني بالخطأ وسوء التقدير ورداءة الاختيار أو حتى احتمالية ذلك
طبيعة ملخصها: لا والله لم أخطيء قط، وخياراتي دومًا كانت هي أصح الخيارات وأحكم القرارات
حتى لو صرخت كل الشواهد بالعكس وحتى لو حدث يومًا وشهدت الخيارات نفسها على خطئها تصريحًا لا تلميحًا؛ فإنهم سيرفضون تلك الاعترافات وسيؤكدون أن الأمر ليس كما يبدو، ببساطة لأن قبولهم لنقد خياراتهم قد يعني ببساطة أنهم قد أخطؤوا ابتداءً.
يعني أنهم مضطرون لكلمات من نوعية: آسف - أخطأت - تراجعت - ندمت... إلخ
يعني أنهم قد يحتاجون كسائر البشر الطبيعيين للمراجعات والتقييمات وإعادة النظر في الأشياء والاعتراف أحيانًا أن الحق لم يكن معهم والصواب لم يكن ملازمًا لهم، وهذا طبعا لا يليق بعصمتهم الضمنية ولا بذكائهم الباهر وحسن تقديرهم الأبدي، لا يليق بلسان حالهم الذي يكاد يصرخ قائلا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]
وخلاصة ذلك هي الاجتماع بين الهوى والكبر الذي أدى لرفض الحق وإن صرخ بهم مناديًا، ذلك الاجتماع الذي لخصه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع مانع كعادته؛ « »
- التصنيف:
- المصدر: