حل مشكلة دارفور

منذ 2010-04-25

يحلم كثيرٌ من المتعاطفين مع قضايا الأمّة الإسلامية أن يكتب لهم العلماءُ والدعاة "وصفة" سريعة لحلّ مشاكل الأمة، فيُبدأ في تنفيذها على الفور، ومِن ثَمَّ تخرج الأمة سريعًا من أزماتها وكبواتها!!



يحلم كثيرٌ من المتعاطفين مع قضايا الأمّة الإسلامية أن يكتب لهم العلماءُ والدعاة "وصفة" سريعة لحلّ مشاكل الأمة، فيُبدأ في تنفيذها على الفور، ومِن ثَمَّ تخرج الأمة سريعًا من أزماتها وكبواتها!!


لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك؛ فطريق الإصلاح طريق طويل، وآليات التغيير قد تكون شديدة التعقيد، وليس الأمر سهلاً بسيطًا كما يظن البعض، فيختزل المشكلة في نقطة أو نقطتين، ويضع الحلّ في كلمتين، ويظنّ بذلك أنّ الأمة ستنطلق وقد تحررت من قيودها!


إن ما يحدث لأمتنا من أزمات لَهو تراكماتُ سنين، وأخطاءُ عقود، ولا يمكن أن تحُلّ هذه المعضلات إلا بصبر جميل، وخُطَّة طويلة المدى، يقوم على تنفيذها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، وهي خطة يشارك في تنفيذها المخلصون من أبناء السودان، كما يشارك فيها كذلك المخلصون من أبناء العالم الإسلامي الواسع الذي آن له أن يفيق من سُباته، ويستعيد مكانته اللائقة كخير أُمَّة أخرجت للناس.


وقبل الحديث عن آليات الحل أودُّ أن أُعرب عن سعادتي الكبيرة بتفاعل القُرّاء من الرجال والنساء، وكثرة الاقتراحات التي تقدموا بها، وهذا التفاعل - في رأيي - هو علامة رائعة على صحوة حقيقية، وعلى روح مؤمنة، وعلى رغبة إيجابية في الخروج من أزماتنا الكثيرة، وهذه الحميَّة والحماسة - في رأيي - هي بداية صحيحة لفترة جديدة من حياة أمتنا العريقة.

أما آليات الحل، فتشمل هذه الأمور:


مشكلة السودان - أزمة دارفور
أولاً: لا بد أن تدخل السودان في بؤرة اهتمام العالم الإسلامي؛ فلقد عاش السودان لسببٍ أو لآخر زمنًا طويلاً بمعزِل عن فكر ووجدان العالم الإسلامي، وهذا خطأ مركَّب شارك فيه علماءُ ودعاةٌ وسياسيون واقتصاديون وإعلاميون وغيرهم. ومِن ثَمَّ فالبداية أن نحرِّك مشاعر المسلمين وعقولهم تجاه حُب السودان، والحرص عليه، والتعاطف معه، بل والتضحية من أجله، فهو في البداية والنهاية بلدٌ إسلامي عريق، وشعبه من الشعوب التي تتميز بفطرة إسلامية أصيلة، ويغلُب على أفرادها الطيبة والمودَّة والكرم، ولقد لمست ذلك بنفسي سواء في السودان عند زياراتي لها، أو في مصر، أو العالم عند التقائي مع الجاليات السودانية. ولعلِّي لا أنسى أبدًا الترحاب العميق الذي قابلوني به في أحد مساجد الجالية السودانية في مدينة دالاس الأمريكية، وقد شعُرت عندها بمدى تقصيري وتقصير الدعاةِ والعلماءِ في التواصل الدائم مع هذا الشعب الكريم.


إننا نحتاج أن نضع السودان في دائرة الاهتمام الأولى من حياتنا، ونحتاج أن نجد في مكتباتنا المؤلفات العديدة عن تاريخ السودان وواقعه، وعن اقتصاده وسياسته واجتماعياته وفنونه، وغير ذلك من أوجه النشاط فيه، ونحتاج أيضًا أن نتعرف على أعلامه ورموزه، وأن نشارك بقوَّة في فعالياته.


ولا يخفى على القُرّاء بالطبع أن ما نقوله الآن عن السودان نحتاج أن نقوله أيضًا عن باقي دول العالم الإسلامي التي نُغفِل الاهتمام بقضاياها، ولا تدخل في دائرة اهتمامنا إلا عند الكوارث الكبرى، ولا شكَّ أننا نحتاج إلى أن نفتح بقوة ملفات الصومال واليمن والصحراء المغربية وإندونيسيا والفلبين، والدول الإفريقية الإسلامية الكثيرة التي تعيش في عشرات الآلاف من المشاكل، فضلاً عن الملفات الساخنة في فلسطين والعراق وأفغانستان.


ثانيًا: لا بد من فَهْم قضية السودان بشكل عام، ودارفور بشكل خاص، فما نكتبه من أوراق لا يمثل إلا صفحة واحدة من كتاب السودان الضخم، وبداية الحل دائمًا هي الفهم، ولا يمكن أن نقدِّم مشروعًا ناجحًا بغير فهم دقيق للأحداث، وهذه في واقع الأمر مشكلة كبرى؛ لأن المعلومات عن إقليم دارفور أو السودان بشكل عام - متضاربة جدًّا، وغير موثَّقة بالمرة، وبالتالي فإننا نريد من المخلصين المتخصصين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها، أن يُنفِقوا الوقت والجَهْد من أجل إخراج دراسات أصيلة ترفع الواقع الموجود بصدق، وتنقل الصورة الحقيقية لداخل السودان بكامله، وتستمع إلى كل الأطراف، ولا مانع - بل لا بُدَّ - من دراسات ميدانية تشاهد وتسمع وتسجِّل. كما لا بُدَّ من استبيانات شاملة تنقل رُؤى المواطنين ومشاكلهم وأحلامهم واقتراحاتهم، وهذا جهد لا بد أن يشارك فيه المخلصون من أبناء السودان في داخل أرضه وفي خارجها، كما لا بد أن يشارك فيه العلماء من كل بقاع العالم الإسلامي.



ثالثًا: لا بد من خُطَّة واقعية عملية طويلة المدى للارتقاء مدنيًّا بإقليم دارفور وغيره من الأقاليم الواسعة في السودان؛ فالجميع ممن عاش في دارفور أو زارها يشهد بضعف التنمية في هذا الإقليم المهمّ، وليس معنى هذا أنها لا تشهد أي تنمية، ولكن ما نراه هناك من مشروعات وأعمال لا يتوازى مطلقًا مع مساحة الإقليم أو عدد سكانه أو ثرواته، وهذه نقطة تحتاج إلى مراجعة دقيقة؛ لأن تنمية الانتماء عند أهل دارفور للسودان لا يمكن أن تكون بالشعارات الجوفاء أو الخطب الرنّانة، إنما يحتاج أهل دارفور إلى شعورٍ حقيقي ـ غير متكلف ـ باهتمام بقية السودان حكومةً وشعبًا بهم، وهذا لا بدّ له من انعكاس على أرض الواقع. ومِن ثَمَّ فخطوة رئيسية من خطوات الحلّ هي الإنشاء الفعلي للمدارس والجامعات والمستشفيات والهيئات التي تغطي حاجات المجتمع هناك، وبشكل كُفءٍ ومتميز. ولا بُدَّ من شبكة مواصلات قوية تسهِّل على أهل الإقليم الحركة في داخله، وتربط أطرافه الواسعة بعضها ببعض، وكذلك تربطه مع بقية الأقاليم السودانية. وكذلك يحتاجون إلى شبكة اتصالات قوية، وإلى وسائل إعلامية دائمة تنقل منهم وإليهم...، إلى غير ذلك من أمور المجتمع المدني المتحضر والصالح.


وليس خافيًا عني أنّ إصلاح كل هذه الأمور يتطلب وقتًا ومالاً، لكن لا بد من البداية، ولا بد من خطة واضحة معلنة، وبشفافية كبيرة، ولا بد من وضوح للميزانية العامة ونصيب دارفور فيها. كما لا بد أن نبدأ بالأهمّ فالمهم، وهذا يتطلب دراية واسعة بفقه الأولويات، كما يتطلب اطّلاعا كاملا على كبرى مشكلات الإقليم.


رابعًا: لا بد من مشاركة حقيقية وفاعلة لأهل دارفور في الحكومة السودانية، وفي كافة الأنشطة السودانية في المجالات المتعددة وخاصَّة السياسية والإعلامية.. وما نعلمه أن زعماء المتمردين غير مقبولين من عامة أهل دارفور، وأنهم من الشخصيات المتسلقة التي ترغب في تحقيق مصالحها الخاصة ولو كانت على حساب السودان نفسه، وتعاملاتهم مع الصهاينة والغرب واضحة ومفضوحة، لكن على الجانب الآخر فإننا على يقين من أن هناك شخصيات صالحة مخلصة كثيرة من أهل دارفور تستطيع أن تمثِّل الإقليم في كل القطاعات السودانية، وعندها ستكون دارفور ممثلة بأهلها، ويصبح تحقيق ما نريده من مشاريع هناك أمرًا طبيعيًّا؛ فنحن لا نريد من أهل دارفور أن يستجدوا حقًّا لهم، إنما هم يطالبون بحقٍّ أصيل لا ينكره شرع، ولا يتعارض مع عُرف. كما أن هذه المشاركة الفاعلة ستكون صمام الأمان الرئيسي الذي يحفظ دارفور من تسلُّط المُغرِضين، ويرفع عند أهلها درجة الولاء بشكل طبيعي غير متكلف.


خامسًا: على هيئات الإغاثة الإسلامية الكثيرة الموجودة في معظم بلدان العالم الإسلامي، وفي كثير من البلدان الغربية أن تهتم اهتمامًا خاصًّا بهذه المنطقة الساخنة، وأنا أعلم أن القضايا الملتهبة كثيرة، لكن قضية دارفور تحمل أبعادًا ضخمة تهدِّد أمن العالم الإسلامي كلّه، فليست القضية فقط طعام وشراب، ولكنها في الأساس قضية ولاء وانتماء، وتـَهديد خطير باختراق العالم الإسلامي من جنوبه؛ وعليه فإنّ توجيه هذه الهيئات لطاقاتها إلى هذا المكان لا يحقِّق مصالح إغاثية إنسانية فقط كما يحدث في عامة البقاع الأخرى، ولكنه يحقق مصالح دينية وسياسية وأمنيّة في غاية الأهمية، ومِن ثَم فإنني أهيب بكل هذه الهيئات أن تضع دارفور على قمة أولوياتها.


سادسًا: على المستثمرين المسلمين أن يتوجهوا بمشاريعهم الاقتصادية العملاقة إلى هذا الإقليم وغيره من أقاليم السودان، فنحن لا نريد إغاثة فقط، ولا تبرعًا فحسب، وإنما نريد عملاً دائمًا مستمرًّا، وبالتالي فإقامة المصانع والمشاريع الكبرى سيوفر مجالات للعمل لأهل دارفور، كما سيورثهم خبرة وعلمًا، فضلاً عن شعورهم باهتمام الاقتصاديين في العالم الإسلامي بهم. وإننا نرى جميعًا الشركات العالمية العملاقة تنشئ مصانعها في الصين والفلبين والمكسيك وهندوراس، وغيرها من الأماكن التي توفر عمالة رخيصة تساعد في تقليل سعر المنتج، فلماذا لا نبدأ بهذه الخطوة في دارفور؛ فيستفيد المستثمر ويستفيد أهل دارفور، ويتغير الحال.


تقوية الجيش السوداني لدعم الأمن والتنمية
سابعًا: لا بد أيضًا من تقوية وتدعيم الحالة الأمنية في دارفور بشكل الخاص، وفي السودان بشكل عام، وهذا يتطلب تقوية الجيش السوداني من حيث العدد والعُدَّة، كما يتطلب تدعيمًا كبيرًا لروحه المعنوية، وتوجيه نواياه إلى إرضاء الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وخدمة الإسلام، وهذه ليست أوهاماً خيالية، بل هو طريق واضح ومفهوم، والروح الإسلامية دافعة أكبر من أي شيء آخر. ولقد ألقيت قبل ذلك محاضرة في الجيش السوداني ووجدت تفاعلاً إسلاميًّا عظيمًا منهم، وبذور الخير موجودة بفضل الله في قلوب كل المسلمين.. وبخصوص هذا الجانب الأمني فنودُّ الإشارة إلى أن تدعيمه لن يخدم الناحية الأمنية فقط من حيث الاستقرار والأمان وحفظ الأرواح والأموال، ولكنه فوق ذلك سيكون من أهم عوامل جذب المستثمرين وهيئات الإغاثة إلى دارفور وغيرها من أقاليم السودان.



ثامنًا: من أهم عوامل حفظ دارفور هو التوعية الدينية القوية لأهل دارفور، ولا يكفينا هنا نشاط أحد الدعاة أو العلماء بالذهاب إلى هناك مرة أو مرتين، ولكننا نريد عملاً مؤسسيًّا مدروسًا يكفل الحفاظ على مستوى إسلامي راقٍ طوال الوقت في هذا الإقليم الكبير، ويوضح لأهل دارفور عظمة الانتماء إلى الإسلام لا إلى القبلية، ويوضح كذلك خطورة الانتماء إلى أعداء الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والولاء لهم. كما يوضح لهم الحل الإسلامي الواضح لمشاكلهم وأزماتهم، وفوق ذلك يستثمر جهودهم لخدمة السودان كله، بل وخدمة العالم الإسلامي أجمع، وهذا عمل يحتاج إلى تكاتف من العلماء في كل مكان، وإلى تنسيق متقن مع علماء السودان، وهم كُثُر والحمد لله. كما يحتاج إلى اهتمام خاص من الهيئات الإسلامية الكبرى في دول العالم الإسلامي كله لإنشاء فروع لهيئاتهم في دارفور، وإرسال البعثات التعليمية المستمرة إلى هناك، والأهم من كل ذلك استقدام النابغين من أهل دارفور لتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، ثم إعادتهم إلى دارفور ليحوِّلوها - بفضل الله - إلى منطقة إسلامية قوية متحضرة، تعتمد على نفسها، وتخدم غيرها.


تاسعًا: على الحكومة السودانية أن تدرس بعمق الموازنات السياسية بين القوى العالمية، وأن تفقه جيدًا أن العالم ليس أمريكا وغرب أوروبا فقط، ومن هنا فإقامة عَلاقات دبلوماسية قوية مع القوى العالمية الأخرى يؤثر بشكل مباشر على قرارات الأمريكان والأوربيين، وليس هناك مانع من إقامة علاقات مدروسة مع الصين وروسيا مثلاً، أو غيرهما من القوى المؤثّرة، وذلك طبعًا بالضوابط الشرعية والسياسية. كما أن على الحكومة السودانية أن تقوِّي علاقاتها بشكل حكيم مع دول الجوار التسعة؛ لأن ضعف العلاقة مع هذه الدول يفتح مجالاً للتدخّل الغربي من خلال هذه الدول، ونخص بالذكر دولة تشاد، التي ترتبط بحدود طويلة مع إقليم دارفور، والذي يحكم بأفراد من قبيلة الزغاوة الموجودة في إقليم دارفور؛ مما يجعل العلاقة بين تشاد ودارفور ذات طابع خاص جدًّا. كما يجب على الحكومة السودانية أن تُفعِّل المنظمات الإفريقية في المنطقة؛ كمنظمة الإيجاد وغيرها، حتى تكوِّن رأيًا عامًّا إفريقيًّا وعالميًّا يخدم الملف السوداني.


منظمة المؤتمر الإسلامي
عاشرًا: وأهم من النقطة السابقة هو إيجاد علاقة قوية وفاعلة مع الدول العربية والإسلامية، والبحث عن آليات عملية لتوحيد العالم الإسلامي حتى لا يصبح لُقمة سائغة لأهل المشرق والمغرب، وهذه الوَحدة طريق طويل وصعب، لكن ليس مستحيلاً، ولا بُدَّ للمسلمين أن يقوموا به، وقد رأينا غير المسلمين في غرب أوروبا أو في شرق آسيا أو في أمريكا اللاتينية يفعلونه، فكيف لا يستطيع فعله المسلمون؟!


كانت هذه هي النقطة العاشرة، فتلك عشرة كاملة!


وأحب أن أختم هذا المقال بنقطتين مهمَّتيْن..


أما الأولى فهي أن ما ذكرناه من حلولٍ ما هو إلا إسهامٌ في حلّ القضية، وأنا على يقين أن هناك المئات والآلاف من الاقتراحات الأخرى البنّاءة، والتي تسهم بإذن الله في حلّ المشكلة.


وأما النقطة الثانية فهي أن هذه الحلول جميعها تصبح هباءً منثورًا في غياب المخلصين والمخلصات من أبناء الأمة الإسلامية؛ فالأمر يتطلب تضحيات، ويحتاج إلى تجرُّد، وقبل ذلك وبعده يحتاج إلى توفيق من ربِّ العالمين، والله عزَّ وجلَّ لا ينصر إلا من نصره.


أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعِزَّ السودان، وأن يمكِّن له، وأن يحفظه من شر أعدائه، وأن يوحِّد صفَّه، ويرفع شأنه، ويُعلِي رايته، وأن يستعمل أهله في خدمة هذا الدين العظيم..

اللهم آمين!!

ونسأله سبحانه أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.



 

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 7
  • 2
  • 9,422

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً