الشيخ عبدالعزيز الطريفي الذي رأيت
امتاز الشيخ الطريفي بعمق الفهم للنصوص، وحسن تصور الواقع، وإيصال ما يريد دون إثارة بلبلة، والمحافظة على شعرة معاوية في تعامله مع السلطان.
- التصنيفات: أخبار السلف الصالح - تراجم العلماء -
مساء يوم في عام 1425 للهجرة عرفني زميل على الشيخ عبدالعزيز الطريفي وأعطاني ملزمة لشرح أول أبواب من بلوغ المرام.
الملزمة عجيبة والشرح عجيب، جمع بين علمي الفقه والحديث ويطغى عليه الحديث..
قرأتها كاملة بشغف في جلستين أو ثلاث وأنا أقول في نفسي منبهرًا: ماهذا؟ ومن هذا؟ هذا التأليف يشبه السحر.
عرفت منزل الشيخ في حي المصيف، واتجهت إليه زائرًا بعد الترتيب مع صاحبي الذي يعرفه.
ذلك الوقت لم يشتهر الشيخ بعد.
زيارة العلماء وطلب القراءة عليهم هذا علم ينبغي لطالب العلم أن يتقنه، وإلا فلن يفوز من العالم بشئ.
أذكر أنني زرت الشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله -والذي يعد من أعلم علماء الحنابلة في زمانه- لطلب القراءة عليه، فلما كلمته لم يعرني اهتمامًا ولم يلب رغبتي، بل أخذ يداعبني (ينكت علي) وأذكر أنه قال لي:
من أين الأخ؟
قلت: من الخرج.
قال: هل عندكم عائلة يقال لها الشبرين؟
قلت: نعم.
ففتح الشيخ يده ومد أصابعه ثم شبر بيده مرتين، وقال: شبر.. شبرين.
ثم تناساني ولم يعرني أي اهتمام كما ذكرت.
أخذت تعليمات من بعض طلبة العلم عن كيفية طلب القراءة على الشيخ ابن عقيل؟ ثم زرته بعد عام وقابلت أحد طلبة العلم عنده من اليمن فأبلغته بمرادي فزادني تعليمات خاصة عن الشيخ، فطبقتها، ونجحت في القراءة عليه، وأكرمني وجعل لي الأولوية على غيري إذا أتيته.
عندما زرت الشيخ الطريفي لأول مرة في بيته المستأجر في المصيف وهو يصغرني باثنتي عشرة سنة وجدته بحرًا في العلم، متقد الذهن ذكيًا ونبيهًا، عقله أكبر منه بكثير، يأتي بالنقولات كما هي في الكتب، يفهم ما يقول فهمًا متقنًا، خبر مسائل الفقه والحديث، مع سمت وأدب وأخلاق واحترام لمن يجالسه.
طرحت عليه عدة مسائل أعرف جوابها مسبقًا ولكن من باب سماع رأيه فيها، فوجدته ملمًا بالعلم ويتحدث حديث العلماء الكبار ويفتي من خلال ترجيح أقوال العلماء التي يحفظها عن ظهر قلب، فانقدح في ذهني آنذاك أنني أمام مشروع عالم ستنتفع الأمة منه مستقبلاً بإذن الله.
بالطبع طرحت الرغبة في قراء كتاب مختصر على يديه فوافق حفظه الله وفك أسره.
وأذكر أنني قرأت عليه على مدى شهرين أو ثلاث تقريباً وهو يعلق ويشرح من ذاكرته دون تحضير مسبق.
عرضت عليه كتابي أحكام الحرم فراجع منه فصولاً وقدم لي نصائح نفيسة في العلم وحل لي إشكالات عويصة كانت تواجهني.
في عام (1426هـ) أو (1427هـ) -الشك مني- بعدما بدأ صيت الشيخ يذيع هنا وهناك، وبدأ الطلاب يتوافدون على دروسه تم اعتقاله لمدة ثلاثة أشهر في سجن الحائر دون سبب يذكر، من شهر جمادى الآخرة الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، لكنه يقول: عاملوني معاملة حسنة وكان المحقق يحقق معي وكوب العصير أمامي!! من باب الإكرام!
وبعدما حققوا معه طيلة الأشهر الثلاثة قالوا له: رايتك بيضاء ولا شيء عليك وقررنا خروجك من السجن ويمكنك أن تعود للتدريس كما كنت!
الشيخ الطريفي لا يصدق عليه أنه حافظ للأحاديث فقط بل هو أعمق من ذلك، فهو ذكي جدًا وقارئ عجيب.
عهدته لا ينام الليل انشغالاً بالقراءة كما ذكر عن نفسه ويكتفي بنومة ما بعد الفجر والظهر.
ومن حفظه وإتقانه أنه دعاني مرة في ذلك الوقت لأن محدثًا من باكستان أو الهند زار الشيخ، ورغب الشيخ في مجلس نروي فيه كتاب البخاري إجازة عن هذا العالم الهندي والذي يرويه عن مشايخه ويسمى في علم الحديث الإجازة أي يجيزنا كتاب البخاري بالإسناد، المهم اجتمعنا في منزله بحي المصيف ونحن نعد على الأصابع والحضور طلبة علم، والشيخ الطريفي هو من يضيفنا ويصب لنا القهوة والشاي تواضعًا منه، بعدها طلب ذلك العالم الهندي أن يتفضل أحدنا بإيراد حديث من صحيح البخاري بإسناده، فسكت الجميع لصعوبة ذلك، ولم يخطر ببال أحدنا هذا المطلب، ومع الحرج والصمت الذي ساد المكان؛ قال الشيخ عبدالعزيز بتواضع: أنا.. ثم ذكر حديث إنما الأعمال بالنيات مسندًا، ولا زلت أذكر أغلب رجال ذلك الإسناد بعدما سردهم الشيخ: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحي بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب... فذكر الحديث مرفوعًا.
وهذا يدل على تمكن الشيخ واستحضاره السريع وحفظه، فلا غرو فهو يحفظ الكتب الستة عن ظهر قلب.
ولو قارنته بالشيخ سليمان العلوان والشيخ عبدالله السعد، فالشيخ العلوان باختصار يعد (فلتة) بتعبيرنا فهو علامة حافظ متقن يذكرك بحفاظ السلف، فعلوم التفسير والفقه والحديث بين يديه يأخذ منها ما يشاء ويترك ما يشاء، ويفتي مباشرة وكأنه ينظر إليها، وربما أتى بنقل لابن تيمية طوله صفحة تقريبًا فتتعجب من حفظه، لكن الشيخ الطريفي امتاز بعمق الفهم للنصوص وحسن تصور الواقع وإيصال ما يريد دون إثارة بلبلة، والمحافظة على شعرة معاوية في تعامله مع السلطان.
والشيخ عبدالله السعد يعد من علماء الحديث وممن حمل رايته خلال الثلاثين سنة الماضية، والساحة آنذاك خالية إلا من مؤلفات الألباني وممن أعاد لعلم الحديثه بريقه ورونقه بدروسه التي يتكلم فيها عن صناعة الحديث، ومعرفته العجيبة بالرجال، لكن الشيخ عبدالله السعد اقتصر -غالبًا- على علم الحديث وحتى دروسه الفقهية يتناولها من ناحية حديثية، عكس الشيخ الطريفي والذي تجده يمزج بين العلمين بكل اقتدار إضافة إلى إلمامه بعلوم الشريعة نظرًا لقراءاته الموسعة وإن (كان يغلب عليه التحديث)، ولذا فإنه يستضاف في برامج الفتوى ويجيب مباشرة.
وامتاز الشيخ الطريفي أيضًا بحسن التأليف وجودته واستقصائه العجيبة لأقوال العلماء ولعل كتابه عن الاختلاط مثال على تقصيه لأقوال الأئمة والعلماء طوال تاريخ الإسلام، أما كتابه شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم فأنا أقرأه كل عام عند الحج وأعيد قراءته مرتين أو ثلاث لما فيه من جودة التأليف والنكات العلمية والفوائد الجمة والاستيعاب للأقوال دون اختصار مخل أو تطويل ممل، وإن سألتني عن كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو بجانبي دائماً ولم أضعه في المكتبة.
كتابه التحجيل والذي استدرك فيه على الشيخ الألباني ما فاته من تخريج إرواء الغليل هو بداية شهرته، والمطلع على الكتاب يلمس تبحره وعمقه في علم الحديث.
كما أن كتابه زوائد أبي داود على الصحيحين يكشف عن تمكنه من علم الحديث والذي هو من أحب العلوم إليه، والكتاب يوضح أن الشيخ من حفاظ الحديث.
هؤلاء الثلاثة هم فرسان علم الحديث في هذه البلاد بل في هذا الزمن المعاصر: الشيخ عبدالله السعد والشيخ سليمان العلوان والشيخ عبدالعزيز الطريفي.
فالسعد أسنهم عمرًا وأعلمهم بالرجال.
والشيخ العلوان أحفظهم.
والطريفي أفهمهم.
وإذا صحح الثلاثة حديثًا فاعمل به ولا تسأل أحدًا غيرهم عنه، وإن ضعفوا حديثًا فاقصر العناء ولا تتعب نفسك في تتبعه عند غيرهم.
والجامع لهم أنهم لا يقلدون غيرهم في تصحيح وتضعيف الأحاديث، كما أنهم يسيرون على طريقة المتقدمين من علماء الحديث كأحمد والبخاري والنسائي.
يظهر لي ومن خلال تتبعي لفتاوى الشيخ الطريفي أنه استفاد كثيرًا من الشيخ سليمان العلوان -ولا أجزم- لاسيما في أشرطته المسجلة وذلك قبل اشتهاره، فالعلوان اشتهر قبله وهو أسن منه بسبع سنوات تقريبًا.
ومما يدل على ذلك توافقهم العجيب في الحكم على الأحاديث وتشابه طريقتهم في العلم، وذلك أن الشيخ العلوان سجل عشرات الأشرطة العلمية فكانت مادة خصبة لطلاب العلم، عوضت فقده عندما اعتقل مابين عامي 1425 وحتى خروجه الأخير عام 1434 ثم إعادة اعتقاله مجددًا.
ومن الأشياء الجميلة عند الشيخ الطريفي اتزانه في فهم التيارات الإسلامية المعاصرة، فلا تلمس منه شطحات ضد هؤلاء أو هؤلاء.
كذلك علاقته المتميزة والمتينة بالدعاة وطلبة العلم في هذه البلاد وغيرها، وهذا من رجاحة عقله وفهمه العميق للواقع المنطلق من فهم نصوص الشرع.
ونظرًا لقوة حجته وتمكنه العلمي لم يستطع اللمَّازون التعرض له بالنبز واللمز أو التشنيع كما تعرضوا لغيره، نظرًا لتمكنه العلمي وقوة حجته.
ومن الطرائف أن بعض الإعلاميين المهتمين بفكر الرافضة عرض على حسن المالكي المناظرة مع أحد العلماء أو طلبة العلم فوافق فوراً وتحمس كثيرًا مغترًا بأقواله وحججه وواثقاً بأنه سينتصر، وعرض ذلك الشخص على الشيخ الطريفي أن يكون المناظر للمالكي فوافق، فلما علم حسن المالكي أن الذي سيناظره الشيخ الطريفي انسحب من المناظرة.. سبحان الله، صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إيهٍ يا ابنَ الخطَّابِ، والذي نفسي بيدِه، ما لقِيَك الشيطانُ سالكًا فجًّا إلا سلَكفجًّا غيرَ فجِّك» (رواه البخاري ومسلم).
أما الغلاة أصحاب الفكر الخارجي فقد ضاقوا ذرعًا بالشيخ لأنه كشف عوار فكرهم وغلوهم، لذا نالوا منه في أدبياتهم وشنعوا عليه واتهموه بالتهم الملفقة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن ينطبق عليهم قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
كما يرسم لنا منهجاً عند الشيخ في عدم مجاملته لأحد كائناً ما كان حتى ولو رفع قميص يوسف أو تدرع بشعار محاربة الكفر العالمي.
ومن الأشياء الجميلة عند الشيخ الطريفي والتي تذكر بطريقة السلف في طلب العلم: ما قام به من عقد مجالس للتحديث، أي قراءة كتاب من كتب الحديث خلال يوم أو يومين متواصلة حتى إنهاء الكتاب.
فأعلن عن قراءة كتاب الموطأ للإمام مالك (1800) حديث، وانتشر الخبر وحضر الناس من انحاء المملكة، ووضع مكان مخصص للنساء، وقرأ الكتاب على الشيخ يومي الاربعاء بدءًا من بعد صباة المغرب، ويوم الخميس طوال اليوم حتى أتمه الساعة 11.27 دقيقة مساء، بحضور المئات من طلبة العلم الذين وفدوا إليه من كل حدب وصوب عدا من تابعه عبر الانترنت، قراءة متواصلة تتخللها أوقات التوقف للصلاة وتناول الطعام، حتى تمت قراءة الكتاب على يديه في هذه المدة القصيرة، فسبحان الله.
كان هذا يوم السادس والسابع من شهر صفر عام 1434 للهجرة.
وقبلها بشهر قرئ عليه كتاب سنن الدارمي (3455) حديثًا، وذلك في مجلسين: الخميس غرة محرم واستمرت القراءة من بعد الفجر وحتى العاشرة ليلاً، ثم المجلس الثاني الخميس الثامن من شهر محرم واستمرت القراءة حتى الواحدة ليلاً، وقد كان الطلاب يأكلون والقراءة مستمرة لا يتوقفون إلا للوضوء والصلاة، يتتابع على القراءة ستة من الطلاب المتميزين، والشيخ يعلق أحيانًا بنفائس عجيبة، فسبحان من أعانه على إحياء طريقة السلف في قراءة أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم رغم تغير الزمان وانشغال الناس.
(الشيخ الطريفي في قلب الأحداث).. هذه عبارة تختصر لنا أن الشيخ الطريفي مزج العلم بالعمل، فليس هو من المشائخ المنزوين جانبًا والذين يؤثرون السلامة طلبًا لرياسة أو خوفاً من سلطان أو إيثارًا للسلامة، بل هو في قلب الحدث، تجده يتصدى للرافضة في سوريا والعراق، ويقف سدًا منيعًا أمان حملات التغريب هنا في هذه البلاد المباركة، صادعًا بالحجة والبرهان دون خوف من أحد أو كلل أو ملل، بل تجده يعيش عصره لحظة بلحظة، فما من حدث أو هجمة على الدين ألا وتجد الشيخ حاضرًا يصدها ويجليها بحكمته ومنطقه، مستغلاً الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي والتي سخرها تسخيرًا بديعًا لتذب عن حياض هذا الدين وتجلي اللبس عند الناس، فلله دره وهنيئًا له مزج العلم بالعمل.
لقد كان الزنديق ينال من هذا الدين فيصمت الجميع إلا من رحم الله لأسباب فيتكلم الشيخ الطريفي لوحده، فقد كان أمة وحدة، وما شرق العلمانيون والليبراليون بأحد مثل ما شرقوا من ردود الشيخ الطريفي عليهم وتعريتهم حتى إن أحدهم لم يجد قدحًا في الشيخ غير قوله: (البزر الطريفي).
أما استنباطاته العجيبة من القرآن وربطها بالواقع فهو أمر لم يسبق له في العصر الحديث، ولو أن الشيخ يكمل طريقته هذه ويمر على آيات القرآن آية آية فيستخرج منها الفوائد والنكات ويربطها بالواقع كما فعل في تغريداته بالعديد من الآيات لخرجنا بظلال للقرآن ينطبق على الواقع، فسبحان من سخر له هذه الملكة في فهم آيات القرآن وربطها بالأحداث المعاصرة، فأنت تمر على الآية وربما لا تجد فيها شيئاً يذكر، وتقرأ تغريدة الشيخ الطريفي حولها فكأنك تتدبر الآية لأول مرة، ولا أرى أحدًا يماثله في ذلك سوى الشيخ الشعراوي لكن مع الفارق، فتأملات الشيخ الشعراوي تأملات علمية بحتة، بينما الشيخ الطريفي تأملاته دعوية منهجية تمس واقع الأمة المعاصر وتحتاج إليها وتقارع الجاهلية وتفضحها.
أما أخلاقه وهديه وتواضعه وعدم تكلفه وحلمه أمر يلمسه بوضوح من خالطه، ولذا طرح الله في قلوب الناس محبته.
ومن المواقف الجميلة له أن أحد المحققين أخذ تخريجه في كتاب التحجيل ووضعه في تحقيق كتاب له، وهذا يعد سرقة علمية، ورغم ذلك فإن الشيخ لم يشنع عليه بل أكرمه وقربه وجعله من خاصة أصحابه.
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
أما تواضعه، فهذا معروف عنه، ومن ذلك اهتمامه بالمعلومة مهما كان مصدرها، وأذكر أنني تناقشت معه في مسألة كفر تارك الصلاة فأوردت أثرًا لبعض الصحابة فاهتم به وسألني عن مصدر الأثر.
عبدالعزيز الحويطان