هذا لو عرفوا

منذ 2016-05-04

لا بد من مراجعة لغة الخطاب الدعوي نفسها والمحاولة الجادة لإيجاد مفردات تقترب من فهم الشباب والبسطاء، بدلًا من ذلك الأسلوب النخبوي الذي يصل أحيانًا إلى درجة من التعالي المقصود أو غير المقصود.

أعرف إنه كويس!

بهذه الإجابة المختصرة رد مرسي الزناتي على سؤال أستاذة المنطق حين سألته عن هذا الأخير
- تعرف إيه عن المنطق يا مرسي؟!
- أعرف إنه كويس!

انقلب الحضور ضحكًا وأدرك الزناتي مدى بلادة الإجابة فأراد أن يجوّدها قليلًا، وأضاف: أعرف إن الواحد لما ينضرب يقع ما يحطش منطق!

كان هذا المشهد من مسرحية مدرسة المشاغبين يحضرني دومًا حين أطالع تلك المقاطع التي انتشرت مؤخرًا والتي يفترض أنها مضحكة، و يتم تصويرها بين الشباب في الشوارع والجامعات والنوادي ويتم فيها سؤال المارة أسئلة بديهية، أو كانت من قبل بديهية ولكنها لم تعد كذلك..

وبغض النظر عن الانحدار الرهيب في المستوى الثقافي العام الذي تحويه إجابات الشباب في تلك المقاطع، إلا أن المحزن بشدة هو أن جُل إجاباتهم عن الأسئلة الدينية -التي كانت يومًا كما قلت بديهية- لم تكن تختلف كثيرًا عن إجابة مرسي الزناتي عن سؤال المنطق، إلا أن لمرسي الزناتي عذرًا حيث أن المنطق يعد علمًا أعقد بكثير من تلك الأشياء البديهية التي تحويها أسئلة هذه المقاطع!

أسئلة من نوعية ما أقصر سورة في القرآن؟
هل تعرف أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة؟!
هل تعرف أركان الإسلام الخمسة؟!
كم جزء يحتويه القرآن؟!
إلى آخر تلك الأسئلة التي تسهل تدريجيًا من مقطع إلى مقطع، حتى تصل في أحد المقاطع للسؤال عن حفظ سورة الفاتحة وعن اسم نبي المسلمين!

المفاجأة أنه حتى مع تلك النوعية الأخيرة من الأسئلة كانت الإجابات مذهلة، وبعيدة كل البعد -أحيانًا- عن أي منطق متوقع حدوثه في دولة أغلبية سكانها تحمل بطاقاتهم في خانة الديانة كلمة مسلم ومسلمة!

بُعدًا كان يجعلني كثيرًا أحمل كثيرًا من الشكوك في صحة تلك المقاطع وعدم افتعالها، بل وفي أهداف المواقع التي تحرص على نشر تلك الصورة عن مجتمعنا.

هل يريدون صناعة أي مقطع مضحك والسلام؟!

أم يريدون تشويه الشباب؟!

هل يودون إعطاء صورة مغلوطة عن المجتمع؟!

أم يرغبون في تهوين حقيقة الدين ومكانته في قلوب المصريين؟!

هذه النوعية من الأسئلة كانت تراودني دومًا وأنا أستمع لتلك المقاطع مؤكدًا، لنفسي بإصرار أن الأمر ليس بهذا السواد الحالك، وأنه يستحيل أن يوجد شاب مسلم لا يعرف الفارق بين نبي الله إبراهيم عليه السلام وبين سيدنا أبي بكر الصديق، أو آخر لا يعرف أركان دينه، أو أن مسلمة بالغة عاقلة لا تحفظ سورة الفاتحة التي لا صلاة لمن لا يقرأ بها!

مستحيل..

أكيد في حاجة غلط!
أكيد في شيء مفتعل أو متكلف!

من يحضرون محاضراتنا في المساجد ويستمعون إلى خطبنا الأسبوعية التي نلقيها في الجمعات والأعياد، ليسوا أبدًا بهذا القدر من البعد عن أبسط معلومات الدين!

إنهم يفهمون ما أقول ويدركون معانيه، بل ويتفاعلون معه مبدين آراءهم سواء بالاتفاق أو الاختلاف.. المهم أنهم يفهمون.

لا شك إذا أن هذه المقاطع مزورة أو تمثيلية كوميدية مفتعلة لتشويه صورة الشعب المتدين بطبعه!

هكذا كنت أطمئن نفسي لاجئًا إلى دفن الرأس في الرمال المريحة..

كان ذلك قبل أن أقرر يومًا ألا أكتفي بالمنبر المرتفع وكرسي المحاضرات الوثير القابع خلف المكتب المهيب، وأن أبدأ التواصل والتفاعل بنفسي مع الشباب خصوصًا في ذلك السن المعروف بالمراهقة..

وكانت الصفعة التي جعلتني أنتبه لأرفع رأسي من تلك الرمال التي اعتدنا دفن رؤوسنا فيها.

دون الخوض في كثير من التفاصيل، فإن الحقيقة لا تختلف كثيرًا عما حوته تلك المقاطع إن لم تكن أسوأ.

هناك مشكلة في الخطاب الدعوي المعاصر.

لم أعد أشك في هذا!

نحن كدعاة وخطباء ووعاظ في معزل عن أجيال وفئات مجتمعية كاملة، لهم مفردات مغايرة، ويتحدثون لغة تختلف كثيرًا عن تلك التي نحدثهم بها، ويحتاجون إلى طرح ومواضيع غير تلك التي نعيد ونزيد فيها وربما منا من لا يستطيع غيرها.

والمسؤولية هاهنا ليست فقط على الدعاة، ولكن الأمر يمتد للآباء والمعلمين والموجهين بشكل عام.

هناك قدر من التكرار والنمطية في طريقة العرض لا بد من الانتباه إليها وإيجاد محاولات جادة لمعالجتها، قبل أن يتحول الأمر لكارثة حقيقية تتسرب تدريجيًا لمجتمعنا دون أن يشعر بها الكثيرون، وسيؤدي إنكارها المستمر إلى تفاقمها واتساع دائرة انتشارها بشكل يصعب إصلاحه.

لا بد من مراجعة لغة الخطاب الدعوي نفسها والمحاولة الجادة لإيجاد مفردات تقترب من فهم الشباب والبسطاء، بدلًا من ذلك الأسلوب النخبوي الذي يصل أحيانًا إلى درجة من التعالي المقصود أو غير المقصود.

علينا الإفاقة من ذلك الوهم والظن بأن تلك الدائرة الضيقة الملتفة حول أصحاب هذا الخطاب ممن يفهمونه هي منتهى المراد وغاية الآمال، بينما تظل قطاعات كاملة بمعزل تام عن أبسط معاني الدين والشرع لنفاجأ يومًا أنهم يُسألون: تعرفوا إيه عن الإسلام؟
فتكون الإجابة: نعرف إنه كويس!

هذا لو عرفوا...

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 7,564

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً