علو الله تعالى ومباينته لخلقه

منذ 2016-05-07

ولما كانت هذه الصفات، ومنها صفة علو الله على خلقه تابعة لذاته، فإن الإيمان بها واجب، كالإيمان بالذات العلية، ولذلك قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه:5]، فقال: "الاستواء معلوم (أي العلو) والكيف غير معقول، والإيمان به واجب".

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

فإن الله الذي خلقنا، أوجب علينا أن نعرف أين هو؟ حتى نتجه إليه بقلوبنا ودعائنا وصلاتنا، ومن لا يعرف أين ربه، يبقى ضائعًا لا يعرف وجهة معبوده، ولا يقوم بحق عبادته.

إن صفة العلو لله على خلقه هي كبقية الصفات الواردة في القرآن والأحاديث الصحيحة، كالسمع والبصر والكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله، فإن عقيدة السلف الصالح، والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة الإيمان بما أخبر الله به في كتابه أو رسوله في أحاديثه من غير تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى من الآية:11].

ولما كانت هذه الصفات، ومنها صفة علو الله على خلقه تابعة لذاته، فإن الإيمان بها واجب، كالإيمان بالذات العلية، ولذلك قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه:5]، فقال: "الاستواء معلوم (أي العلو) والكيف غير معقول، والإيمان به واجب".

فانظر -يا أخي المسلم- إلى قول مالك رحمه الله، حيث جعل الإيمان بالاستواء واجبًا معرفته على كل مسلم، وهو العلو، ولكن كيفيته مجهولة لا يعلمها إلا الله.

إن كل منكر لصفة من صفات الله الثابتة: في القرآن والحديث، ومنها العلو المطلق وأنه على السماء، يكون منكرًا للآيات والأحاديث الدالة على إثباتها، وأن هذه صفات كمال ورفعة وعلو لا يجوز نفيها عن الله، وما كان من محاولة من بعض المتأخرين في تأويل الآيات والصفات إلا لأنهم متأثرون بالفلسفة التي أفسدت عقائد كثير من المسلمين مما جعلهم يعطلون هذه الصفات الكمالية لله، ويخالفون طريقة السلف والتي هي أسلم وأعلم وأحكم، وما أحسن من قال:

فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَف *** وَكُلُّ شَرٍ في ابْتدَاعِ منْ خَلَفْ

والخلاصة: أن الإيمان بجميع الصفات الواردة في القرآن والأحاديث الصحيحة واجب، ولا يجوز أن نفرق بين الصفات، فنؤمن ببعضها على ظاهرها، ونتأول بعضها الآخر، فالذي يؤمن بأن الله سميع بصير لا مثيل له في سمعه وبصره، عليه أن يؤمن بأن الله في السماء -أي على السماء عُلوًا يليق بجلاله لا مثيل له في علوه-؛ لأنها كلها صفات كمال لله، أثبتها الله لنفسه في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم تؤيدها الفطرة السليمة، ويصدقها العقل السليم، قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه" (شرح العقيدة الطحاوية: [1/117]).

الأدلة على علو الله:

وقد دل على علو الذات الإلهية: الكتاب والسنة والإجماع والعقل وهو موافق للفطرة السوية.

أما الكتاب: فقد تنوعت الأدلة الواردة في القرآن الكريم في الدلالة على إثبات علوه عز وجل على خلقه علو ذات منها:

- النوع الأول: أن الله عز وجل سمى نفسه بِ (العلي) و(الأعلى) وأسماء الله عز وجل تتضمن صفاته عز وجل. والقاعدة السلفية: أسماء الله أعلام وأوصاف، فاسم (العليم) دال على صفة العلم دلالة تضمن، وكذلك اسم (العلي) و(الأعلى) دالان على صفة العلو.

- النوع الثاني: إثبات استواء الله عز وجل على عرشه، وقد جاء هذا في سبعة مواضع في كتاب الله جل وعلا.

منها: قوله تعالى في سورة طه: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه:5]، والاستواء في لغة العرب إذا عدي بحرف الجر (على) كان بمعنى علا وارتفع. وانظر كلام السلف في تفسير الآية.

- النوع الثالث: إثبات فوقيته تعالى، قال تعالى عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل من الآية:50].

- النوع الرابع: التصريح بصعود الكلم الطيب إليه، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية:10].

- النوع الخامس: التصريح برفع بعض الأشياء إليه، قال تعالى عن عيسى عليه السلام: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء من الآية:158]. وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران من الآية:55]، إلى آخر الأنواع الدالة على علو الله على خلقه وهي كثيرة جدًا ولولا خشية الإطالة لذكرتها كلها. ولقد ذكر بعض العلماء أن في القرآن الكريم أكثر من ألف دليل على علو الله، وأوصلها بعضهم إلى ألفين.

وأما الأدلة من السنة المطهرة فهي كثيرة جدًا لا تكاد تحصى:

- منها: الحديث المتواتر في قصة الإسراء والمعراج، وتجاوز النبي السموات سماء سماء حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل بين موسى عليه السلام، وبين ربه تبارك وتعالى، وينزل من عند ربه تعالى إلى عند موسى فيسأله: كم فرض عليك؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف.

- ومنها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» (صحيح البخاري؛ برقم: [3194]، وصحيح مسلم؛ برقم: [2751])

- ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [179]).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على علو الله على خلقه.

 

ومن المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات العلو لله تعالى، ما رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) عن جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لَقِيَت امرأةٌ عمرَ رضي الله عنه يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين: حبست رجالات قريش على هذه العجوز. قال: "ويحك وتدري من هذه؟" قال: لا. قال: "هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" (رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات، وضعفه الألباني: في تحقيق شرح الطحاوية).

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي، عن أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات" (جامع الترمذي؛ برقم: [3213]، وصححه الألباني في صحيح الترمذي).

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبًا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات جاء بها الروح الأمين" (مسند أحمد؛ برقم: [2537]، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبدالله بن خثيم فمن رجال مسلم).

أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا على أن الله فوق خلقه، عال عليهم بذاته وقدره وقهره، بائن منهم، وأنه تعالى مستو على عرشه، وأنه مطلع على خلقه وهو معهم بعلمه لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.

يقول الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي: "مقالة السلف وأئمة السنة بل والصحابة والله ورسوله والمؤمنين: أن الله فوق سمواته... ومقاله الجهمية أنه في جميع الأمكنة، ومقال متأخري المتكلمين -من أشاعرة وماتريدية وفلاسفة- أن الله ليس في السماء، ولا على العرش، ولا على السماوات ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه..، قال لهم أهل السنة والأثر:... هذه السلوب نعوت المعدوم -تعالى الله جل جلاله عن العدم-، بل هو متميز عن خلقه موصوف بما وصف به نفسه في أنه فوق العرش بلا كيف" (كتاب العلو: [107-195]).

وقد ذكر الإمام أبو عمرو الطلمنكي في كتابه في الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته.

وقال -أيضًا-: أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد من الآية:4]، ونحو ذلك من القرآن ؛ بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: [1/76]).

وروى ابن أبي حاتم في (كتاب السنة) عن سعيد بن عامر الضبعي رحمه الله أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شر قولًا من اليهود والنصارى، وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء! (المرجع السابق: [1/134]).

وقال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي -واسمه هبة الله بن الحسن الطبري الشافعي- في كتابه: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) سياق ما روي في قوله: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه:5]، وأن الله على عرشه قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية:10]، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك من الآية:16]، وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام من الآية:18]، فدلت هذه الآيات أنه في السماء وعلمه بكل مكان من أرضه وسمائه، روي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين ربيعة، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال مالك، والثوري، وأحمد (شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي: [3/388]).

هذا مختصر عن ما نعتقده نحن أهل السنة والجماعة في صفة العلو لله تعالى، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمنهج أهل السنة والجماعة، وأن يهدي كل من زَلَّت به قدمه عن الحق والصواب، ومن جانب سبيل أهل الديانة والأصحاب، إنه خير مسؤل، وأعظم مأمول، والحمد لله رب العالمين (للاستفادة الرجوع إلى كتاب (إثبات علو الله ومباينته لخلقه) للشيخ حمود بن عبدالله  التويجري).

  • 14
  • 0
  • 42,783

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً