إن منكم منفرين
محمد علي يوسف
هكذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجود هذا الصنف من الناس بين المؤمنين بوضوح وحسم قالها؛ وليقطع على أي منكر سبل إنكار وجود تلك الآفة في الأمة طبعًا. حين يُذكر التنفير فإن أول ما يسارع إلى الذهن هي تلك الصورة النمطية التي جرى ترسيخها عبر عشرات الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية لذلك الداعية غليظ الملامح خشن الصوت الذي لا يتحدث إلا عن الموت والقبر كما تظهره تلك الأعمال بشكل متكرر!
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
هكذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجود هذا الصنف من الناس بين المؤمنين بوضوح وحسم قالها؛ وليقطع على أي منكر سبل إنكار وجود تلك الآفة في الأمة طبعًا. حين يُذكر التنفير فإن أول ما يسارع إلى الذهن هي تلك الصورة النمطية التي جرى ترسيخها عبر عشرات الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية لذلك الداعية غليظ الملامح خشن الصوت الذي لا يتحدث إلا عن الموت والقبر كما تظهره تلك الأعمال بشكل متكرر!
وهي في رأيي صورة ساذجة وبعيدة عن حقيقة الدعوة وحقيقة التنفير شرعًا وواقعًا، فليس المنفر من تحدث عن الموت وذكّر الناس به فعنه تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بل وأمر بتذكير الناس به بل الإكثار من ذلك كما في قوله: « » لعل الغافل ينتبه ولعل البعيد يقترب ولعل العاصي يسارع بتوبة، ليس هذا تنفيرًا في ذاته وإن كان من الممكن أن يصير تنفيرًا إن وضع في غير موضعه، أو تم الإسراف في تناوله ولكنه حينئذ يستوي بكل ما يتم الإسراف وما يزيد عن حده فينقلب لضده، وأيضًا ليست الهيئة أو نبرة الصوت أو سائر الأمور الخلقية التي لا دخل للمرء في اختيارها، مما يعد تنفيرًا في نظري اللهم إلا إن كانت المعايير قد اختلت للدرجة التي يُفرَّغ فيها الكلام من محتواه ويحكم على الناس بمظاهرهم وأشكالهم الخارجية!
التنفير في رأيي أمر مختلف وأعمق بكثير من تلك المعايير المسطحة. حديثي عن التنفير يشمل أولئك الوعاظ أصحاب النية الحسنة والخطاب ذي المحتوى المنفر، حتى وإن غلب عليه الصوت الحسن وغلفته أجمل الأساليب
خطاب يتحرى أقسى الأقوال وأشد المذاهب دون أي اعتبار لأقوال مخالفة أو مذاهب مغايرة تستند هي الأخرى إلى أدلة ربما قد تكون أصح وأحكم من أدلتهم.
أولئك قد يُعذرون إن كانوا لم يسمعوا عن تلك الأقوال الأخرى ولم يدركوا شيئًا عن أدلتها ومنطقها ولم يعرفوا عنها إلا وصف من علموهم لها بأنها أقوال متميعة ومذاهب متهوكة يقولها مبتدعة ويعتنقها منتكسون. أقول قد يُعذرون بوجه وإن كانوا لا يخلون من تقصير في البحث والتحري قبل التسرع، ولعلهم يُسألون عن ذلك التقصير المنفر بشكل لا يقل عما إذا كانوا يعلمون.
لكن أولئك الذين يعلمون الخلاف ويقدرونه ويدركون وجوهه ومناطاته ومع ذلك يصرُّون على نفس الخطاب الذي يعتمد بشكل أساسي على هذه المسائل الخلافية وكأنها أصول الدين وغايات الالتزام وحقيقة التدين وكأن من يأخذ بأقوال مخالفة لأقوالهم فيها قد وقع في أكبر الكبائر وانتهك أعظم الحدود وخاض في بحار المحرمات، ويتهمون من يناقش تلك المسائل بشكل علمي متجرد بأنه متفلسف بارد أو مميع لدين الناس مدمر لالتزامهم = فأولئك حقًا من أخشى عليهم ولا أدري بأي وجه يتعذرون أو يُعذرون وهم يعلمون ويفقهون ويدركون، والأهم أنهم يعرفون تلك الحقيقة الشرعية الحاسمة؛ حقيقة أن تحريم الحلال قد لا يقل سوءًا عن تحليل الحرام.
حقيقة يعضدها ما لا يحصى من الوقائع والشواهد رأينا فيها مآلات ذلك الخطاب التنفيري المُضيِّق على الخلق، والذي يؤدي في النهاية بالشخص إلى احتقار نفسه وازدرائها حين تقع في شيء من تلك الأمور التي غرسوا فيه دومًا أنها أصول التزامه وأعمدة تنسكه إن كُسرت فقد كُسر دينه؛ من ثم يتفلت الشخص الذي كان يوماً يسمى ملتزماً ويمضي لحال سبيله وقد ظن ألا فائدة منه ترتجى ولا أمل في إصلاحه يُبتغى.
وكل ذلك لأجل أمور فيها سعة أو على أقصى تقدير تعد من صغائر الأمور وقد كان فقط بحاجة إلى أن يدرك ذلك كيلا يحتقر ذاته ويكرهها ويفقد الأمل فيها، كيلا يغلب عليه ذلك الشعور بالتأثم والحرج واتهام النفس بالوقوع في أسر حب الدنيا والتعلق بزينتها؛ والذي يصيب بعض المنتسبين للالتزام والاستقامة عند تذوقهم لشيء من الجمال المباح، عند تأثرهم بمشهد بديع أو طرب نفوسهم بنسمة عليلة أو لوحة جميلة أو قصيدة بليغة أو رواية ماتعة أو حتى تلذذهم بوجبة هنيئة، تأثم وحرج وعنت وندم وجلد للذات فقط لأنها تجرأت وتذوقت الجمال ثم أعجبت به، هذه المشاعر في غير موضعها هي في رأيي من أعظم ما جناه أولئك المنفرون الذين يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون. أولئك الذين يصرون على تحويل نفوس الملتزمين لصحارٍ جرداء منزوعة البهجة مطموسة الفطرة، تلك الفطرة التي جبلها مولاها على حب الجمال وجعل لها نصيبا مباحا للاستمتاع به
{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32].
تأمل
لقوم يعلمون
هذا هو المعيار الحقيقي الذي به تنضبط الأمور ويعرف المنفر من المرغب ويتمايز الداعون إلى الله؛ العلم.