فوائد من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
ولو كان ما فهمه هؤلاء مِن الآية الكريمة صحيحًا لبطلت الشرائعُ وتُرك الدِّين، ولَمَا صحَّ لأحدٍ أن يدعوَ إلى الله أو يأمرَ بمعروفٍ أو يَنهى عن منكرٍ، وهؤلاء يَنسبون إلى الله تعالى ما تستنكف الآذان عن سماعِهِ مِنَ الباطل والضلالِ المبين، فأين النصوص التي لا تُحصر في الأمر بالبلاغ والبيان والدعوة إلى الله تعالى؟
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105].
يتعلق بهذه الآيةِ الكريمةِ فوائد:
الفائدةُ الأولى: يأمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين بالحرص على هداية أنفسهم وصلاحها، فقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ} اسم فعل أمر بمعنى: اِلزَموا، ويبيِّن لهم أنهم إذا اهتدوا فإنه لا يضرهم زيغ الآخرين وضلالهم، ولا ينبغي لهم أن يحزنوا لأجل ذلك، مع أنهم مأمورون بهدايتهم وإرشادهم للطريق المستقيم بدعوتهم إلى الله تعالى وأمرِهم بالمعروف ونهيِهِم عن المنكر؛ فإن ذلك مِن الواجبات الشرعية المتقرِّرَةِ بالأدلة الكثيرة، وهو مِن لازم الهداية؛ إذ لا يكون المسلمُ مهتديًا الاهتداءَ التامَّ معَ إعراضه عن الدعوةِ إلى الله والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر.
ولَمَّا كان هذا الفَهمُ الخاطئ قد يدخل إلى بعض النفوس الضعيفة أو الجاهلة فقد بادَرَ أكابرُ الصحابةِ رضي الله عنهم إلى التنبيه على غَلَطِهِ، وأشهر ذلك ما ثَبَتَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ فَقالَ: "يا أَيُّهَا الناسُ، إِنَّكُمْ تقرؤون هذه الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة من الآية:105]، سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: « »" (رواه أحمد وأهل السنن، وإسناده صحيح)[1].
الفائدةُ الثانيةُ: أخطأ وضلَّ في فَهم هذه الآية الكريمة صِنفان مِنَ الناس:
الصِّنفُ الأولُ: الكُسالى والمتقاعسون عن الدعوة إلى الله تعالى والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فقد توهَّموا أن في هذه الآية حجةً لهم في تقصيرهم، فما داموا مهتدين في ظنهم فمَا لَهم وللآخرين.
الصِّنفُ الثاني: بعضُ أصحاب الفُجور والفسوق والمعاصي، حيث استعملوا هذه الآية في مواجهةِ الداعين إلى الله تعالى الآمرينَ بالمعروف الناهينَ عن المنكر، وقالوا لهم: ما يضركم عملُنا إذا كنتم مهتدين، فما لكم ولنا، دعونا في ضلالنا وغوايتنا حتى يهدينا الله.
ولو كان ما فهمه هؤلاء مِن الآية الكريمة صحيحًا لبطلت الشرائعُ وتُرك الدِّين، ولَمَا صحَّ لأحدٍ أن يدعوَ إلى الله أو يأمرَ بمعروفٍ أو يَنهى عن منكرٍ، وهؤلاء يَنسبون إلى الله تعالى ما تستنكف الآذان عن سماعِهِ مِنَ الباطل والضلالِ المبين، فأين النصوص التي لا تُحصر في الأمر بالبلاغ والبيان والدعوة إلى الله تعالى؟
بل أين ما عُلم بالضرورةِ مِن دِينِ الأنبياءِ جميعًا عليهم السلام مِن الإنكار على الضالين المشركين والعاصين والمفسدين؟ فكل شرائع أنبياء الله تعالى مِن نوحٍ عليه السلام إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم قائمةٌ على الدعوة إلى الله تعالى والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وإلا فإلى أي شيءٍ دَعَا الأنبياءُ عليهم السلام؟! ولماذا أُرسِلوا؟![2].
الفائدةُ الثالثةُ: لا تتم هدايةُ المسلم حتى يعمل بشريعة الله تعالى، ومِن أعظم شرائع الدين: "الدعوةُ إلى الله تعالى والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر"، فمَن تَرَكَ ذلك فهو غير مهتدٍ الاهتداءَ التامَّ، وكيف يكون مُهتديًا وهو يترك سبيل الأنبياء عليهم السلام، وسبيلَ المصلحين جميعًا؟! كيف وقد قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]؟!
فأَتْبَاعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقية هم الذين يَدْعون إلى الله على بصيرة وهو العلم والهدى واليقين، وكيف يكون المسلم مهتديا وقد ترك الدعوةَ إلى الله والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر مع قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « »، قُلْنَا: "لِمَنْ؟"، قال: « » (رواه مسلم)[3].
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: "وإنما يتمُّ الاهتداء إذا أُطيع الله و أدِّيَ الواجب مِن الأمر والنهي وغيرِهما، وفي الآية فوائد عظيمة منها: أن لا يخاف المؤمنُ مِن الكفَّار و المنافقين فإنهم لن يضرُّوه إذا كانَ مهتدِيًا، ومنها: أن لا يحزَنَ عليهم و لا يجزعَ عليهم فإن معاصِيهم لا تضرُّه إذا اهتدى، والحزنُ على مَا لاَ يضرُّ عبثٌ.. قال: وفي الآية معنى آخر وهو: إقبال المرء على مصلحة نفسه عِلمًا و عَمَلاً، وإعراضُهُ عمَّا لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: « »، ولاسيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة مِن أمر دِينِ غيرِه ودُنياه، لاسيَّما إن كان التكلُّم لحسدٍ أو رئاسةٍ".اهـ [4].
الشيخ عبد الرحمن بن فهد الودعان الدوسري
——————————–
[1] (رواه أحمد [1/9،2،5،7]، وأبو داود في (كتاب الملاحم)، باب الأمر والنهي [4/122] [4338]، والترمذي في (كتاب الفتن)، بَاب ما جاء في نُزُولِ الْعَذَابِ إذا لم يُغَيَّر الْمُنْكَرُ [4/467] [2168]، وابن ماجه في (كتاب الفتن)، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [2/1327] [4005]، والنسائي في (السنن الكبرى) [6/338] [11157]، وصححه الترمذي، وابن حبان [1/539] [304] [305]، والضياء في الأحاديث المختارة [1/143-149]، والنووي في رياض الصالحين ص [70]، والألباني في السلسلة الصحيحة [1564]).
[2] (للاستزادة في توضيح الآية الكريمة والرد على المغالطين فيها انظر: آيات مظلومة بين جهل المسلمين وحقد المستشرقين، للدكتور عمر قريشي ص [138]، وتصويبات في فهم بعض الآيات، للدكتور صلاح الخالدي ص [77 ]، وشبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للدكتور فضل إلهي ص [13]).
[3] (رواه مسلم في (كتاب الإيمان)، باب بَيانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ برقم [55]).
[4] (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة [14/480-482] مختصرًا).
- التصنيف: