النكبة والتطبيع النفسي مع المحن والأزمات

منذ 2010-05-31

حين ينشغل الناس عن هم دينهم، ويتنصلون من مواجهة مسؤلياتهم في المحن والخطوب، يسلط الله عليهم من الذل والصغار وتشتت القلب والتيه في الدنيا ما لا يقاس بما يهربون منه من تكليف شرعي، وواجب ديني، كل هذا مع الإثم والخزي في الدنيا والآخرة...


المحن دائمًا تكشف عن جوهر الأشياء، لا يمارِي في هذا أحد.

والمحنة التي مرت بالمسلمين في فلسطين كانت فعالة إلى حد كبير في تعرية الواقع الإسلامي، وفي الكشف عنه إلى الحد الذي دفع البعض للتساؤل عن الحكمة من تذكر هذه النكبة، والأمة تتوالى عليها النكبات يوما بعد يوم...

وتتابع المحن على أمتنا حتى أصبحت أحد لوازمها، فلا يكاد يمر يوم دون أزمة خانقة أو محنة عظيمة أو بلاء ثقيل.
 
 
والنكبة التي سيطر اليهود فيها على فلسطين، وشردوا شعبها المسلم، وكانت بداية مسلسل طويل من المذابح والمجازر ليس في فلسطين فحسب، بل في كثير من الدول حولها، تحتفل بعامها الستين، وسط تجاهل فاضح من الأمة المنكوبة.
 
هذا التجاهل سببه بالأساس الخوف من الفضيحة أمام الذات، والخوف من حساب النفس للنفس، والخوف من النظر في صفحات سوداء تجلب العار على أهلها.
الكثير يخشى من مواجهة ذاته بالسؤال الشائك: ماذا قدمت بعد ستين عامًا على الحدث؟
 
حتى بعض الذين تذكروا النكبة، راحوا يثرثرون حول جرائم الغزاة، ويخنقون صدورنا بمشاهد المجازر التي لا تفارقنا صباح مساء، وكأنهم يخاطبون غرباء لا يحلق الموت في سمائهم بالليل والنهار أو كأنهم يحدثوننا عن أمة أخرى تعيش في مجاهل المجموعة الشمسية.
 
 
أما أخطر ملامح النكبة في عامها الستين فهو التطبيع النفسي مع الأزمات والمحن، والذي لم تسلم منه الأمة بأسرها، فهي الآن تعيش حالة من التكيف النفسي مع الأزمات، فرد فعل الأمة تجاه الأزمات بات معدومًا إلا القليل...
 
وهذا القليل أصبح في أغلبه باهتًا لا فائدة منه، إنما هو للتنفيس وتخدير الضمير فقط.
 
لم تفارق النكبة فلسطين يومًا، ففي كل يوم نكبة ومجزرة...
 
 
لكن الجديد الذي رأيناه في النكبات، هو الصمت العربي الذي لم تفلح بعض الأصوات الضعيفة هنا وهناك في أن تخفف من وطأته، بل إن الأمر تعدى الصمت إلى اللامبالاة، وعدم الاكتراث بالمرة...
 
وتعداه في بعض الأحيان إلى ما يمكن تسميته بالدياثة الشعورية، حين علت حناجر جماهير كرة القدم على أنين الجوعى، وتأوهات الجرحى على بوابة رفح المصرية بعد أن بحت أصوات النساء من العويل.
 
 
وحتى لا نوغل في ظلمة الحدث، نحاول أن نقف مع المشكلة بإيجابية، فنقول: إن الأمة الآن لم تعد تملك من ثرواتها إلا الإنسان...
 
تلك البقايا التي نهش الطغاة إنسانيتها وشرفها ثم ألقته كيانًا محطمًا وتائهًا وتعيسًا.
 
 
وإذا كان وجود الإنسان مرهون بالتحدي الذي يواجهه كما يقول أرلوند توينبي، فإن التحدي الذي يواجهه كل إنسان مسلم اليوم هو تحدي وجود لا تحدي سيادة أو نزاع مصالح وتقاطع إرادات...
 
ولهذا تصبح المعركة معركة مصير، لا بد فيها من توعية الجاهل، وتنبيه الغافل، وبث روح المقاومة في نفوس الضعفاء، والبحث عن أساليب جديدة يستطيع كل فرد من خلالها أن يشعر بأهمية ذاته و تأثير دوره.
 
 
لا بد من معالجة أسباب هذا التطبيع النفسي مع المحنة، وأهم هذه الأسباب هو ضعف الإيمان الذي يميت الغيرة في القلب ويشغل النفس عن التفاعل مع الأمة لكونها مشغولة بالتفاعل مع الشهوات، ويصرف الهم بعيدًا عن الواقع العام إلى الرغبة الشخصية الضيقة التي تهوي بالشعور الإنساني إلى مصاف الغريزة الحيوانية.
 
الثاني: هو اليأس من التأثير في الواقع، وذلك لأن الساحة الإسلامية باتت مفتقدة إلى نظرية فاعلة للمواجهة البعيدة مع المحن، مما أدى إلى شيوع وسائل أخرى لا نراها تغني أو تسمن في التفاعل مع قضية الأمة مثل المظاهرات العامة وحرق الأعلام وأخيرًا الرقص والغناء.
 
الثالث: التشويش الفكري الواقع على الناس بسب الحرب الإعلامية المصاحبة دائمًا لكل نكبة والتي لا يتفرد بها العدو وحده، بل تشاركه العزف جوقة العلمانية والليبراليون ومثقفو المارينز، ففي العدوان على أفغانستان سمعنا مقطوعة بن لادن والقاعدة، وفي العراق كانت صدام والدمار الشامل، وفي غزة صواريخ القسام، وهكذا...
 
 
لكن ما رأيناه هنا أوهناك لم يكن سوى خسف وتنكيل بالمستضعفين من المسلمين العزل.
 
الكثير من المسلمين أيضًا، يظن أن الانفعال بمحنة الأمة وأزماتها من دون عمل هو حرق للنفس وتحميل للذات فوق ما تطيق، وهذا انحراف خطير في التعامل مع المحن والأزمات، ففقدان التألم بالمحنة يعني بالضرورة فقدان الشعور بها، والانشغال بما دونها مما يعني لها الموت على الأقل في داخلنا.
 
 
إن الانفصال عن واقع التفاعل مع محن الأمة يعني الانفصال الكياني والنفسي عنها، وعندما يحدث هذا لأحد أعضائها فهو يعني موت هذا العضو...
 
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، رواه مسلم.
 
 
إن الدمع لا يكف، والآهات لا تجد، والتحسر لا يفيد، لكن هذا الهم هو عنوان التفاعل النفسي مع المحنة.
 
لن نكتفي بالبكاء، لكننا نحتاج إلى دمعة حارة في جوف الليل ترثي أمة تلعق دماؤها ليل نهار؛ لأن هذه الدمعة هي التي تنتشل القلب من لجة الدنيا لتضعه في واقع أمته...
 
لا بد من زفرة محزون تحرق في القلب تعلقه بالدنيا وتذيب تبلد إحساسه بإخوانه...
 
 
البعض يقول: إنه يتألم ويحترق لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا.
 
هذه الدموع والزفرات، لو كانت صادقة فلا بد أن يصنع الله تعالى بها شيئًا، وسوف تشعل الحماس في قلب صاحبها، ليبحث له عن دوره وسوف يجده لا محالة.
 
 
قد نعجز عن الأدوار الكبيرة، لكننا لن نعجز عن خدمة هذه الأدوار ودعمها بالدعاء الصادق وتذكير الناس وتوعيتهم بها والدعاية والتنظير العلمي والدعوى لها.
 
كل الأدوار الكبيرة تقوم على عدة أدوار صغيرة تتضافر لتدعمها وتقويها، ولولا دور الهدهد ما أسلمت ملكة سبأ وقومها، فأنزل الله ذكره في القرآن.
 
 
وإمام التابعين "سعيد بن المسيب" كانت إحدى عينيه بها عور، وكان يخرج مع الغزاة، فقال أحدهم له يومًا: يا إمام قد عذر الله لك، فقال: إن لم أقاتل أحفظ المتاع لكم، فذكرها له التاريخ حتى اليوم.
 
والتي لم تجد ما تساعد به الغزاة والمجاهدين سوى ضفيرة رأسها صنعت منها لجام للخيل، فصارت مضرب الأمثال في أمة بأسرها.
 
 
وعلى العكس، فحين ينشغل الناس عن هم دينهم، ويتنصلون من مواجهة مسؤلياتهم في المحن والخطوب، يسلط الله عليهم من الذل والصغار وتشتت القلب والتيه في الدنيا ما لا يقاس بما يهربون منه من تكليف شرعي، وواجب ديني، كل هذا مع الإثم والخزي في الدنيا والآخرة.
 

خالد حربي

كاتب وباحث وخاصة في مجال الرد على النصاري.

  • 4
  • 0
  • 3,416
  • wallo

      منذ
    جزيت خيرا على هذا المقال القيم

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً