شهر شعبان بين الفضائل والبدع
إن مما شاع عند بعض الناس تخصيصهم ليلة النصف من شعبان بالقيام، وتخصيص اليوم الخامس عشر من شعبان للصيام، والذي عليه جمهور السلف وعامتهم، أن ذلك مما لا أصل له، بل هو معدود من جملة البدع المنكرة، وعلى هذا فلا يجوز الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة وغيرها..
- التصنيفات: ملفات شهر شعبان -
الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه....وبعد:
أيها القارئ الكريم:
إن من أجَلِّ العبادات والقربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى التقرُّب إليه بالصيام، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الصيام في شهر شعبان، حتى جاء في بعض الأحاديث أنه يصوم الشهر كله إلا قليلاً منه، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان". زاد البخاري في رواية له: " كان يصوم شعبان كله". وفي مسلم في رواية له: "كان يصوم شعبان إلا قليلاً".
وعلى هذا درج جماعة من السلف في تفضيلهم صيام شهر شعبان على سائر الشهور بعد رمضان، وما ذاك إلا لقربه من رمضان، وقد قرر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن أفضل التطوع بالصيام ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، في شعبان وشوال، وأن ذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض بالفضل. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك يكون الصيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعده منه؛ وعلى هذا فيكون المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: « »، يكون محمولاً على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وما بعده فإنه يلتحق برمضان في الفضل.
ومثل ذلك ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم : « »، إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب التي هي أفضل من قيام الليل عند جمهور أهل العلم. انتهى.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على حكمة تفضيل شهر شعبان؛ لأنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وفي هذا دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعات، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين صلاة المغرب والعشاء في الصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل؛ لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، ومن حكمة تفضيل الصيام في شهر شعبان أن الصيام فيه أشق على النفس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال الناس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم كثر أهل الطاعة بكثرة المبتدئين بهم، فسهلت الطاعات؛ وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسَّى بها عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعتهم لقلة من يقتدون بهم فيها.
وعلى هذا أيها الإخوة المسلمون فمن صام معظم شهر شعبان أو شعبان كله فقد أصاب السنة وحصَّل خيراً كثيراً، وإنما المنهي عنه تعمد صيام يوم أو يومين قبل رمضان احتياطاً لرمضان، فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عيه وسلم كما جاء في الحديث: لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو بيومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه، ويستوي بذلك ما إذا كانت السماء صحواً أو غيماً. وقد جاء في الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قوله: « ».
أخي الحبيب: إن مما شاع عند بعض الناس تخصيصهم ليلة النصف من شعبان بالقيام، وتخصيص اليوم الخامس عشر من شعبان للصيام، والذي عليه جمهور السلف وعامتهم، أن ذلك مما لا أصل له، بل هو معدود من جملة البدع المنكرة، وعلى هذا فلا يجوز الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة وغيرها، ولا يجوز تخصيص يومها، أي اليوم الخامس عشر بالصيام، فكل ذلك بدعة منكرة لا أصل له في الشرع المطهر، بل هو مما أحدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم، والله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: « »، وفي رواية أخرى: « ».
بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: « »، فلو كان تخصيص ليلة من الليالي بعبادة جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها؛ لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منه بشيء من العبادة إلا بدليلٍ صحيح يدل على التخصيص، كما جاء في فضل ليلة القدر، ولو كانت ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج، لو كانت هذه الليالي يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك من قوله أو فعله صلى الله عليه وسلم لنقله الصحابة الأمناء رضي الله عنهم إلى الأمة، ولم يكتموه عن الأمة، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ولهذا حكم جماعة من المحققين على ما ورد من أحاديثَ في فضل إحياء ليلة النصف من شعبان بأنها جميعاً أحاديث موضوعة، أحاديث مكذوبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا تجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز العمل بمقتضاها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لاتباع سنة نبيه، والحذر من الوقوع في البدع وما يخالف أمره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
أيها القراء الكرام: من كان عليه قضاءٌ من رمضان الماضي، فليبادر بقضائه إن كان قادراً على ذلك، فإنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان بغير عذر شرعي.
أيها القراء الكرام: إنه لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام، وقراءة القرآن؛ ليحصل التهيؤ لتلقي رمضان، وترتضي النفوس بذلك على طاعة الرحمان، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم؛ تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان". فهيئوا أنفسكم بارك الله فيكم باستقبال شهر رمضان، هيئوها بالتوبة النصوح، والأعمال الصالحة، من صلاة، وقراءة قرآن، وذكر، وصدقة؛ تحسَّسوا أقاربكم وجيرانكم والمحتاجين، سُدُّوا حاجاتهم، وقدموا لهم ما تستطيعون من العون من زكوات أموالكم وصدقاتكم؛ لعلكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا، وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد.
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن