رمضان شهر التميز
كيف نرتقي بأنفسنا في رمضان؟ وكيف نجعله شهرا مميزا عن سائر الشهور؟ وما هي الخطوات والبرامج والأشياء التي تعين على ذلك؟
- التصنيفات: تربية النفس -
الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعات، وأجزل لنا فيه المثوبة ورفع الدرجات، وَعَدَ من صامه إيمانا واحتسابا بتكفير الذنوب والسيئات، وشرّف أوقاته على سائر الأوقات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، وبعد:
فهذه سلسلة: رمضان واحة الإيمان عبارة عن خواطر وهمسات، مواعظ ولمسات، نُذَكِّر بها أنفسنا لنرقى ونتميز في هذا الشهر، الذي هو شهر القرآن والهدى والإيمان، وفيه نفحات الرحمن إذ تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران.
يقول عليه الصلاة والسلام « »[1].
وكان أبو بكر الشبلي[2] إذا دخل شهر رمضان جد فوق جد من عاصره ويقول: شهر عظمه ربي فأنا أول من يعظمه.
فيا أيها الإنسان هذا شهر رمضان شهر التوبة والغفران وهو رسول من عند الملك الديان، فمن أكرمه منكم حقيقة الإكرام وحفظ فيه لسانه من قبيح الكلام، وبطنه من أكل الربا والحرام وأموال الأرامل والأيتام؛ غفر له الملك العلام وأدخله الجنة مع محمد عليه الصلاة والسلام [3].
ونحن في شهر البذل والعطاء، ما أحوجنا لتلك الواحة المثمرة الخضراء، في وسط صحراء قاحلة جرداء، والناس منشغلون بالدنيا وشهواتها، ومنهمكون بمفاتنها وملذاتها، فالعاقل من اغتنم أوقاته بالطاعات، واستثمر ساعاته بمحاسبة النفس والتصالح مع الذات، وتميَّز فيه بالعبادة واجتناب الملهيات.
عن ابن مسعود، قال: "سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة".
لنكن عمليين فهنا سؤال يطرح نفسه: كيف نرتقي بأنفسنا في رمضان؟ وكيف نجعله شهرا مميزا عن سائر الشهور؟ وما هي الخطوات والبرامج والأشياء التي تعين على ذلك؟ وقد فضله الله سبحانه وتعالى على سائر الشهور، وميزه بالعديد من خصال الخير والمزايا والمكرمات.
حتى نحقق التميز في هذا الشهر ينبغي مراعاة أربعة أشياء:
الأول: لابد من التفريق بين التميز الإيجابي ووسائله وطرق الوصول إليه، والتميز السلبي ومظاهره وأشكاله، لتحقيق الأول واجتناب الثاني.
البعض يتفنن في رمضان بأصناف المأكولات وأنواع المشروبات، يصل إلى حد الإسراف والمبالغة، وكأن رمضان شهر أكل وشرب وتبذير، في الوقت الذي يفترض أنه شهر عبادة وطاعة واقتصاد.
من الناس يجعلون تميزهم بكثرة النوم، لسرعة انقضاء الوقت، لأن مداركهم لا تتعدى أن يكون الصيام مجرد ترك الطعام والشراب.
صنف آخر يتميز في شهر رمضان بمتابعة المسلسلات والبرامج المتنوعة، والانتقال من قناة إلى أخرى.
هنالك فئات كثيرة من الناس يجعلون رمضان، شهرا للسهر وقضاء الأوقات بالقيل والقال والملهيات.
لكن التميز الحقيقي في إتقان الصيام والمحافظة على الفرائض، والإكثار من الطاعات والنوافل، والاهتمام بالقرآن تلاوة وحفظا ومعنى وتدبرا، وذكر الله والدعاء والإنفاق وصلة الرحم وغيرها من العبادات.
الثاني: من الضروري معرفة وفقه ثمرة الصيام، والأثر المترتب عليه والنتيجة المرجوة منه؛ ألا وهي تحصيل التقوى وتحقيقها، عندها سنحدد الهدف ونرسم البرامج بوضوح ونرتب الأولويات.
قال تعالى: {لعلكم تتقون} أي إنه فرضه عليكم ليعدّكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها.[4]
إذا تصورنا واستوعبنا حقيقة الصيام، سيقودنا ذلك لمضاعفة الجهود والسعي للأسباب الموصلة إلى مرضاة الله، من تطبيق الوسائل التي تحقق التقوى وتزيد الإيمان.
الثالث: أهمية استحضار أن الصيام عبادة وأنه بحاجة للإخلاص والمتابعة، وليس مجرد عادة اعتاد عليه الناس متمثلا بترك الطعام والشراب والملذات.
فالصيام: اسْمٌ لِتَرْكِ جَمِيعِ الْأَكْلِ وَجَمِيعِ الشُّرْبِ وَقُرْبَانِ النِّسَاءِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِنَذْرٍ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ.[5]
لو عرفنا هذه الحقيقة وأيقنا بها، سيقودنا ذلك لمزيد من الطاعات والأعمال الصالحات.
ففي الغالب نجد استعدادات ظاهرة مادية شكلية تعوّد عليها الناس، أما الاستعداد القلبي الإيماني المعنوي، وشحذ الهمم وصدق النية والتوبة الحقيقية النصوح، ووضع برنامج وتخطيط مسبق لاستثمار واستغلال هذا الشهر، يكاد يكون نادر جدا!!
الرابع: عدم الإكثار من الأمور التي ستقوم بها، وحدد أشياء ضمن القدرة والاستطاعة واحرص عليها.
فلنبدأ التخطيط المحكم الدقيق، ونضع برنامجا محددا متميزا، ونقسم أوقاتنا ونرتبها بدقة وتوازن، مع تنوع البرامج؛ فنجعل الحصة الكبرى لكتاب الله عز وجل من حيث التلاوة وحفظ شيء يسير والتفسير والتدبر، ثم برنامج عملي للدعاء والصدقة وذكر الله وصلة الرحم وتفقد الآخرين.
مر الحسن البصري بقوم وهم يضحكون, فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون, وخاب فيه المبطلون، أما والله, لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته".
حتى تتميز لا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء
عن هلال بن خباب، قال: سمعت ابن الحنفية يقول: "ليصم سمعك وبصرك، ولسانك، وبدنك، فلا تجعل يوم فطرك مثل يوم صومك، واتق أذى الخادم".
السلف ونعمة إدراك رمضان
عن معلى بن أسد، قال: "سمعت معتمرًا يقول: كان أبي يوقظ كل من في الدار إذا دخل شهر رمضان، ويقول: قوموا، فلعلكم لا تدركوه بعد عامكم هذا".
التميز في الإفطار مع المساكين
سُئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع، فلا ينسى الجائع.
كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائما ولم يأكل شيئا [6].
وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائما.
إذن هذه فرصة قد لا تعوض، فهلموا للتميز في العبادات والإيمانيات، والأخلاق والتربية وتزكية النفس والسلوكيات، والتكافل الاجتماعي وتفقد الآخرين، والاقتصاد في المأكولات والنفقات.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (صحيح الجامع برقم [75]).
[2] من أصحاب الجنيد مات سنة 334هـ، وعاش سبعا وثمانين سنة.
[3] (بستان العارفين لابن الجوزي).
[4] تفسير المراغي.
[5] التحرير والتنوير.
[6] لطائف المعارف.
أيمن الشعبان