من هنا يا أبا معاذ!
منذ 2010-06-27
في مقالةِ (النهضة وأخواتها) استحضر الدكتور سلمان العودة حالتين للتغيير، حالةَ الثورة التي تستجمع القبيح في المجتمع لتثور عليه، وحالةَ النهضة، وهي على النقيض ..
في مقالةِ (النهضة وأخواتها) استحضر الدكتور سلمان العودة حالتين للتغيير، حالةَ الثورة التي تستجمع القبيح في المجتمع لتثور عليه وتأتي الناس بما لا يعرفون أو بما لا يقرّون، إذ الثورة ليست انتقالاً للأفضل غالباً -على حد تعبير الدكتور-. وحالةَ النهضة، وهي على النقيض من حالة الثورة، هي مرحلة تالية جاءت بعد فشل زمن الثورة وانتهائه، وهي (النهضة). حالة تستجمع الجميل لتفعيله، وتبني على الخبرات السابقة (الأفكار والنماذج) بعد صياغتها وفق متغيرات الزمان والمكان والثقافة. على ما يُفهم من كلام الدكتور سلمان العودة.
وفي المقال يشكو الدكتور سلمان العودة من (تراجعٍٍ مخيف في الهمّ الإصلاحيّ والنهضويّ وتباطؤٍ في تداول الفكرة والحديث عنها)، ويبين أنّ النهضة قد لا تكون مع توافر العوامل اللازمة لها من أفراد وثروات. ويبيّن أن الحل في أن نملك مشروعاً له رؤيته وأن نستطيع قياس التقدّم والتخلّف وفق معايير صحيحة. ويقدّم (الإصلاح) كمشروعٍ يجتمع عليه (العامة والخاصة، والسياسيّ والشرعيّ). يريد للقلوب أن تأتلف على (مشاريع إصلاحيةٍ تنمويةٍ في البنية التحتية والتعليم والإعلام والصحة والاقتصاد وجوانب الحياة)، يريد فك حالة التخندق الديني والمذهبي بل والفكري بالالتقاء على الإصلاح!!
والدكتور سلمان العودة يتحدث عن ذاته لا عن تسلسل الأفكار وتطوّرها في حياة الناس، ولا عن تاريخ الأمّة وواقعها المعاصر، فضلاً عن تاريخ البشرية وواقعها كما قد يُتصور من استدلاله بدولٍ أجنبية في الشرق والغرب.
لا تدري كيف يفكر أبو معاذ؟!!
يُخيَّل لأبي معاذ أنهما متتاليان... الثورة زمنٌ كان والنهضة زمنٌ كائن، مع أنه يقرّ في ذات المقال بأن الثورات لازالت قائمة في بعض بلدان الشرق!! والواقع يحدثنا بأن التغير العسكري (الثورة) لازال يحكم في بلدٍ كالسودان، وموريتانيا، والصومال، ولا زال الخطاب المجيِّش للناس برصد سلبيات الموجود للانقضاض عليه موجوداً ومنتشراً فيما يعرف بالمعارضة السياسية التي لا تكاد تخلو منها بلدٌ الآن.
وسؤال النهضة نبت في بعض الرؤوس قبل أن تعرف الأمة أي ثورة، وما أمر خير الدين التونسي وجمال الدين (الأفغاني) ببعيد.
فليست متتالية إذاً، هي فقط متتالية في رأس الدكتور، كأنّه يحكي عن نفسه، إذ كان يتبنّى -فيما يظهر لي- فكر التأليب والنقد (رصد السلبيات) المفضي للثورة، والآن يتبنى فكر (الإصلاح) القائم على الالتقاء مع الجميع على المشترك.
الأمة الإسلامية لا تعرف (الثورة)، ولا تعرف (النهضة وأخواتها) كل هذه دعواتٌ دخلية. شعاراتٌ تُخادَع بها الجماهير. ولك أن تتدبّر في الثورات ودعوات (النهضة) إلى ماذا انتهى أمرها في كل مكان ظهرت فيه؟!
أمر الثورات معروف لا ينازع فيه الدكتور. وأمر النهضة أشدّ بياناً فلا أدري لم ينازع فيه بل يدعو إليه؟
ظهرت الدعوة للنهضة في الأمة الإسلامية في القرن التاسع عشر، وهبَّ (الشرعيّ ) (المتفتّح) ورفع عقيرته (بالنهضة). وهبّت جيوش من المُبتَعثين للدول (المتقدمة). وانتهى الأمر بانحراف فكريّ. نعم انتهى الأمر بانحرافٍ فكري.
ولك أن تتدبّر في مخرجات الدّاعين للنهضة في مصر وغيرها في القرن التاسع عشر خير الدين التونسي وجمال الدين (الأفغاني) ومحمد عبده وغيرهم. كانت ثمرة هذا الحراك انحراف فكريّ. لا تقدم تقنيّ. كانت ثمرة هذا الحراك (النهضويّ) قاسم أمين وسعد زغلول ولطفي السيّد وجامعة القاهرة!!
أين الخلل؟!
الخلل في الغفلة عن أنّ الأمة الإسلاميّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تعرِّف الناس بربّهم وتدعوهم لعبادته وحدَه لا شريك له. ونحن كأفرادٍ هنا في هذه الحياة الدنيا فقط لعبادة اللّه وتعبيد الناس للّه. وإن التزمنا بهذا جاء التقدّم وجاء الرقيّ، كثمرة طبيعية للالتزام بشرع الله.
انتهى المتحدثون في العلوم الإنسانية ألى أن الغاية من حراك الإنسان هي السعادة. ويجتمعون على أنّها الرّاحة والطمأنينة، وهي غير النجاح، وهي غير اللّذة، وهي لا تشترط لقدومها القصور المشيّدة ولا المراكب الفخمة المذلّلة. والسعادة وراحة البال (التي هي مطلب الجميع) في التعرّف على الله وعبادته {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22]. وهذا ما يحتاجه الناس حقيقة، وهو محورٌ رئيس عند كلّ المهتمين بالشأن الإنساني. وهو مفقودٌ عند غير المسلمين، ويفضي إلى عذابٍ مقيم من رجزٍ أليم.
فمن يريد الخير للإنسانية كما هو حال لسان أبي معاذ. عليه أن يعرّفهم بالّله، لا أن يحدّثهم عن تقدّم تقنيّ، وعن بحثٍ عن المشترك ليلتقوا عليه.
هناك شيءٌ اسمه البركة، وهي لأهل الإيمان والتقوى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. الأموال كالجبال، والرجال كحصى الرمال، وكل شيء ميسّر والناس مشغولون، لا تسأل كبيراً ولا صغيراً إلا وتجده مشغولاً!! نُزعت البركة من الأموال والأوقات. نشهد أكبر تقدمٍ ماديٍّ نعرفه في تاريخ البشرية. وما المحصلة؟ الخوف والجوع لا يكاد يخلو منهما مكان.
يعنيني هنا أنّ المتردّدين على (النهضة وأخواتها) تركوا مهمتهم الأصليّة، وهي تعبيد الناس للّه. فليست المهمّة هي البحث عن المشترك للالتقاء عليه. وحادوا عن هدفهم المعلن، وهو إسعاد الإنسانية، حين لم يرشدوها على أن السعادة في اتباع محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ويعنيني هنا أنّ (النهضة وأخواتها) جرّبناها من قبل ولم نجن من ورائها نهضةً بل مزيد تبعيّةٍ (للآخر).
ويعنيني هنا بيان أن الشرعيّ لا شأن له بالتقنيّ. لو كان المراد التقدم التقنيّ فهذا سهلٌ ميسور. نُخرج الأكفاء منا في هذا المجال يُبتعَثون لمن عندهم هذه البضاعة ويحملون لنا. أو نفعّل هذا الكمَّ المتراكم من الأبحاث العلمية الموجودة لدينا. فالإشكال ليس في مزيد معارف، وإنّما في التطبيق. والتطبيق حين يأتي يأتي معه تقدّمٌ وخبراتٌ متراكمةٌ.
يعنيني هنا إلقاء الضوء على أنّ الحديث عن (النهضة وأخواتها) يتحوّل إلى حديثٍ عن موقفنا من المخالف في الملّة أو في المذهب الدينيّ. ويتحوّل للحديث عن قضايا شرعيةٍ بحتةٍ مثل (الحجاب) بمفهومه العامّ الذي يشمل (التبرج والسفور ومخالطة الرجال) و (الولاء والبراء) و (الطائفية). ما شأن هذا والنهضة؟!
على الشرعي أن يخلع ثوب التقني. وعلى الشرعيّ أن يبيّن للناس لم خلقوا. وعلينا جميعاً أن لا نسلك طريقاً سلكناه ووجدناه مسدوداً أو منحدراً إلى عفن ونتن ومزيدٍ من المهانة. وعلينا أن ننادي كل من يسلك هذا الطريق بأن ليس الطريق من هنالك. فطريقكم هذا سلكناه من قبل ولم نجن منه شيئاً.
فمن هنا يا أبا معاذ، ويا كلّ دعاة (النهضة)، خلف محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
أبو جلال / محمد بن جلال القصاص
ظهر الاثنين 10 / 6 / 1431 هـ
24 / 5 / 2010 م
المصدر: موقع طريق الإسلام
- التصنيف: