اعتزال أم عمالة للآخر؟!

منذ 2010-06-28

بين يدي الآن الحراك ( الفكري ) في نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، حين اشتبك علماء الشريعة مع أهل الأهواء ( كواصل بن عطاء ) ومع المتأثرين بالكافرين ( كالجهم بن صفوان ومعبد الجهني وغيلان القدري ) ومع المندسين من الكافرين ( كالجعد بن درهم ).


بين يدي الآن الحراك ( الفكري ) في نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، حين اشتبك علماء الشريعة مع أهل الأهواء ( كواصل بن عطاء ) ومع المتأثرين بالكافرين ( كالجهم بن صفوان ومعبد الجهني وغيلان القدري ) ومع المندسين من الكافرين ( كالجعد بن درهم ).
وباستثناء المندسين من الكافرين كانت المشكلة علمية. اشتبهت المسائل على أهل الأهواء، فضلوا وخرجوا بآرائهم الفاسدة، فكان ( الاعتزال ) وكانت الأقوال المنحرفة في مسألة الإيمان ( الاستثناء فيه ودخول الأعمال في مسماه من عدم دخولها ).

كانت حالة من التحقيق العلمي للمسائل والبحث فيها، والخلل أن شارك أهل الأهواء.. أن نزل الميدان متحدثاً مَن حقه أن يجلس في آخر الصفوف مستمعاً.
وبين يدي الآن الحراك الفكري في واقعنا المعاصر، ابتداءً من الحملة الفرنسية وقدوم أحفاد ( يوحنا الدمشقي ) و ( ريموند لول ) و ( توما الإكويني ) إلى البلاد الإسلامية ضمن الحملة الفرنسية، ثم المدارس الأجنبية، ومعالجة المبتعثين للغرب؛ ثم الحراك الفكري في القرن التاسع عشر المتمثل في الصحافة والرواية النسوية، وهيجان بعض العسكر ( خير الدين التونسي ) والروافض ( جمال الدين الإيراني )، والنصارى ( بطرس البستاني ) للمطالبة بنهضة الأمة العربية. ثم دخول بعض المحسوبين على العلم الشرعي ( محمد عبده ).
 
في هذه الفترة ظهر الاعتزال، وظهر ( فقه المقاصد )، ولم يكن الأمر كما في بداية القرن الثاني الهجري.. بحثاً علميا من أصحاب هوى أدى إلى هذه الآراء، وإنما جيء بالاعتزال وجيء بفقه المقاصد لتبرير ما يتحدثون به مما أسموه ( نهضة ).
وحرام على من يتحدث عن الحراك الفكري في هذه الفترة أن يتحدث عنه دون أن يقف مع الفاعلين الحقيقيين في ساحة الفكر، ودون أن يقف مع الأفكار المتداولة يومه. يلقي نظره على المتحدثين به ، ويتأمل حديثهم.
كانوا نصرانياً ( بطرس البستاني ) و رافضياً ( جمال الدين الإيراني ) و شرعياً لا يُعرف بتعليم ولا بتعلم على يد علماء ويخالط النصارى والعلمانيين ويصاحب الإنجليز المحتلين، ذاك ( محمد عبده ) لم يعرف بعلمٍ ولا بتعلم قبل ظهوره، وإنما بشغبٍ وتقلب حتى جاء كرومر ورفع من شأنه.


وحديثهم كله من كيس غيرهم، وهمهم كله بعيد عن همنا وغايتنا التي هي عبادة الله وتعبيد الناس لله سبحانه وتعالى وعز وجل.
حين تدقق النظر في الأفكار والمتحدثين بها تجد أن الفاعل الحقيقي كان الآخر. الفكر فكره، وساحة النقاش ( الصالونات والصحف ) هو مَن أوجدها، وهو مَن يشرف عليها ويتحكم فيها.. يمدها بأسبابٍ من عنده.. وبأشخاص يدعمهم هو.
في هذا الجو وبين هؤلاء ظهر الاعتزال وظهر فقه المقاصد تبريراً.
فهل هؤلاء معتزلة، أو أصوليون ( من أهل أصول الفقه )؟!
أبداً؛ هؤلاء تكلموا بالاعتزال وصولاً لأهدافهم. هؤلاء جنحوا للعقل أملا في وسيلة يركبونها لأهدافهم. وهؤلاء أخرجوا الشاطبي ـ رحمه الله ـ ونشروا فقه المقاصد شرعنةً لأفكارهم.
 
هؤلاء كانوا من الآخر، جسراً عبر عليه الآخر. حسنت نياتهم أو ساءت هذه قضية أخرى لا تعنيني هنا، كان الآخر هو الفاعل الحقيقي. وأمارة ذلك تطور الحالة. أو ثمرتها. أخرج هؤلاء علمانيين ولم يخرجوا شرعيين!!
 
بعد هؤلاء تراجعت الأمة لذيل القافلة، وهدأت واستقرت تحت المستعمر، بل ورضيت به وراحت تحاكيه، ولم تحصل على ( نهضة ) كما زعموا!!
 
 
ما شأن هؤلاء بالاعتزال؟

أو ما شأن الاعتزال وهؤلاء؟
هم في طريقٍ والاعتزال في طريقٍ آخر، وفقط تقاطعت الطرق، فعلينا أن نعي أنه فقط تقاطع طرق ولم يكن أبداً طريقاً واحداً.
إنني أجزم بأن الساحة الفكرية ابتداءً من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا يحركها ( الآخر ). فالأفكار تبدأ هناك وتنتقل إلى المنافقين بتأثير مباشر من الكافر، أو يُعجب المنافق بما عند القوم فيأخذه، ثم يأتي الشريعة الإسلامية ـ والمنافق منتسب للشريعة ـ ويعطي تبريرات أو يشرعن هذه الحالة. وفي مرحلة ثالثة.. بعد التأسيس من الكافر والنقل من المنافق، يأتي الغافل ويتعامل مع المنافق وحده أو مع ما تكلم به المنافق بعد أن ألبسه ثوب الشريعة. يحسب الغافل أن المنافق مبدأ الفكرة ومنتهاها، أو يأتي طيبٌ مهزوم فتملَى عليه أسئلة ويجيب، أو يرى خلافاً قد اشتد بين الطيبين والمنافقين فيسلك الغافل طريقاً وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!!


وحتى يتضح المقال دعني أضرب الأمثال:

الحجاب - بمعناه الذي نعرفه في ديننا... بالجدران ثم بالثياب إن اضطرت المرأة للخروج ـ لم تكن تعرف الأمة كلها غيره، والثورة عليه مصدرها الآخر. وبدأ الحديث بها وتفعيلها الآخر ولمدة قرن كامل من الزمن ( التاسع عشر )، ثم جاء المنافقون ونقلوا نقلاً مباشراً عن الآخر، فقاسم أمين لم يخرج شيئاً من جيبه وإنما أخذ من كيس النصارى.. مرقص فهمي والدوركير الفرنسي والاعتراضات الأوروبية على الرحلة الأصمعية. ثم نقلت القضية نقلة أخرى إلى داخل ساحتنا الفكرية حين دخل الغافلون من الشرعيين فتفاعلوا مع أدلة المنافقين المفتعلة، فتحدثوا عن جواز كشف الوجه، وهل يطاله الحجاب أم لا، وعن الحالات التي يجوز فيها مخالطة المرأة للرجال.
 
فهي من عند الكافر، وألبسها المنافق ثوب الشرعية، ثم جاء الغافل وخال عليه دجلهم فتفاعل معها على أنها قضية إسلامية، أو على أنه خلاف إسلامي إسلامي!!

وقل مثل هذا على قضية ( تحكيم الشريعة )، وعلى قضية ( الدولة المدنية ) وعلى قضية ( تاريخية النص )، بل وعلى كل ما يدار في ساحتنا الفكرية.
إنها هكذا: ثلاث حلقات.. وحلقة رابعة!
 
في الحلقة الأولى تبدأ الأفكار عند الآخر.

وفي الثانية نقل من الأخر وإلباس الأفكار ثوب الشرعية أو إدخالها عنوة ضمن الفكر الإسلامي.
 
وفي الثالثة التفاعل من الغافلين.
 
وفي الرابعة من هذا المسلسل تكون عند الآخر ينقل أقوال المنافقين التي هي أقواله بداية إلى قومه ليصدهم عن سبيل الله.
وهذا هو الهدف الرئيسي من هذا الحراك كله. شغلنا بأنفسنا وصدنا عن دعوة قومهم. والمحصلة دوامة فكرية تأخذ جهدنا، وتشغلنا عن قضيتنا الأولى التي هي دعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى وعز وجل.

وهذا الأمر واضح جداً في كل ما كتب رؤوس النفاق في واقعنا المعاصر، وعلى سبيل المثال ترجمت كتب قاسم أمين، وهي كتاباتهم أساساً، إلى أكثر من لغة ونشرت على أنها أفكار المسلمين، وترجمت كتب خليل عبد الكريم وهو ينقل نقلاً حرفياً أو يكاد من القس جوزيف قذى الماروني اللبناني. وترجموا من كتب عباس العقاد ما يعجبهم وتركوا ما لا يعجبهم، وجلس العقّاد بين قرنائه يشكو من ظلم أسياده إذ ترجموا شيئاً وتركوا أشياءً. وليته فطن.
 

وحتى تعلم أنها حالة من العمالة للآخر، أو حالة من تأثير الآخر في فكرنا هلم معي للتالية.

مفهوم العمالة للآخر ومظاهرها

يفهم بعضهم من وصفِ أحدهم بالعمالة أنه يلتقي و ( الآخر ) في مكانٍ بعيدٍ مظلمٍ ويتحدثان بصوتٍ خافت وهما يلتفتان يمنة ويسره، يُعِدُّون الخطط ويدبرون المكائد. وهي صورة سينمائية قديمة، لم يعد لها حضور في أرض الواقع. أو كادت تنحصر في أرض الواقع.
تغيَّرَ مفهوم العمالة وتطور؛ في طريقة الممارسة لا في المضمون، فالعمالة في كل حين تعني مساعدة العميل لمن يعمل لحسابه في تحقيق أهدافه. وكانت في ما مضى تأتي هذه المساعدة سرية، واليوم أخذت أشكالاً أخرى، وتهدف في جميع أشكالها إلى تحقيق أهداف ( الآخر ).
 

قواسم مشتركة:
هذه أهم القواسم المشتركة بين العملاء، وتتوفر كلها أو بعضها في العميل، وهي:
1ـ التخلي عن هدفنا الأصلي الذي أخرجنا الله من أجله، وهو دعوة الناس إلى الله، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران110]. وقد يتطور هذا الأمر عند العميل حين يكون من سفلة المنافقين فتجده يتطاول على الشريعة.. قرآن أو سنة، أو أحكام الشريعة نفسها.

2 ـ إساءة التعامل مع التاريخ الإسلامي، مرة يستدلون به ويتركون القرآن والسنة، والتاريخ يستدل عليه لا به؛ ومرة يبرزون الشاذين فكرياً وخلقياً ممن برزوا فيه كأبي نواس والثورات الشاذة؛ ومرة يتعاطون وجهه العسكري فيتحدثون عن المعارك الداخلية وهي أقل في كل حين من المعارك التي اقتتل فيها الآخر مع أخيه. ومرة.. ومرة... إلا أن التقافز حول التاريخ الإسلامي من سمات العملاء فارقب التاريخ وانظر من يتطاول على حماه تعرف فريقاً من المنافقين.
 
3 ـ التحدث بتأثر الإسلام بالنصرانية أو اليهودية أو غيرهما من الديانات الأرضية. أو أنها كانت عربية لا إسلامية. أو نحو ذلك مما يفيد بأنها لم تكن سماوية كلها، وهذه كثيرة جداً لا تحسب أنها غريبة أو نادرة، وعند مشاهير كعباس العقاد مثلاً، وليست عابرة عنده بل أصل في تفكيره.

4 ـ محاولة تغيير الهوية الدينية، بالدعوة للالتقاء على شيءٍ آخر غير الدين كالوطنية، أو الإنسانية، ومرة يدعون لمن كانوا قبل الإسلام، الفرعونية في مصر، والفينيقية في الشام، والبابلية في العراق، وهكذا...

5 ـ تحسين صورة الآخر في عين المسلمين، أو نزع الكراهية والمواجهة للآخر من صدور المؤمنين، أو التعدي على الولاء والبراء بتغييره أو تحريفه. أو الدعوة لإعادة النظر في نظرتنا للكافرين والمنحرفين كلياً أو جزئياً. وهذه عند الجميع.

ولا تجادلني، حتى لا أعود عليك بعشرات الصفحات برهاناً ودليلاً، أو أنزع يدي من بطرس ومرقص وجرجس وآتيك.
 

خداع:

بعضهم ينكر التواصل مع الآخر، وهذا حقيقي، بل وكثير، والقراءة في كتب متأثرة بالآخر كالقراءة في كتب الآخر لا فرق في المحصلة. وينبغي أن لا يغتر الطيب بهؤلاء. ويحسب أنها حالة من القراءة الخطأ للشريعة الإسلامية. أو يسرح به الخيال ويظن أن المعتزلة انتفضت ثانية وعادت للفكر الإسلامي.

إنها حالة منحرفة تقرأ الشريعة، وليست أبداً حالة من الانحراف في قراءة الشريعة، وإنها حالة تعمل لحساب ( الآخر )، أو حالة منحرفة متأثرة بـ( الآخر )، أو حالة منحرفة يُفعِّلها ( الآخر )، أو يستفيد منها ( الآخر ). والمحصلة أن سياق الأفكار المضادة يبدأ من ( الآخر ) ويمر بالمنافق ويستقر عندنا فيشغلنا عن دعوة الناس لله، ويذهب بجهدنا في جدالٍ داخلي.


أبو جلال / محمد بن جلال القصاص
مساء الأربعاء 26/4/2010 م
‏13‏/06‏/ 1431 هـ


 

المصدر: موقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 3,175

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً