لعلكم تتقون

منذ 2016-06-10

التقوى.. ذلك الوصف المُحبب؛ الذي يجاهد لتحقيقه المؤمنون، ويتشرف بالاتِّسام به الصالحون.. وينتحله المبطلون، وحتى يدَّعيه المنافقون! فمن رام صدق الوصف فقد جاءت فرصة كريمة، تفضل الله بها على خلقه.. لعلهم يتقون! بل فرضها عليهم فرضًا لضرورة الدواء لمجموعة من الأدواء... لعلهم يتقون!

التقوى.. ذلك الوصف المُحبب؛ الذي يجاهد لتحقيقه المؤمنون، ويتشرف بالاتِّسام به الصالحون.. وينتحله المبطلون، وحتى يدَّعيه المنافقون!

فمن رام صدق الوصف فقد جاءت فرصة كريمة، تفضل الله بها على خلقه.. لعلهم يتقون!

بل فرضها عليهم فرضًا لضرورة الدواء لمجموعة من الأدواء... لعلهم يتقون!

إنها فرصة الصيام، الذي يقول الله تعالى لنا عنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[ البقرة:183].

ويلفت نظرك قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ}.

أهي كما قال بعض المفسرين: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد النوم، أي تتركونها؛ حيث كانوا إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم؟ أي كُتِب الصيام لكي تتركوا هذه إيماناً وامتثالاً واحتسابًا؟

أم هي أنه: لعلكم تتقون المحرمات كلها ووتجتنبونها وتبتعدون عنها، كما ذكر بعض المفسرين. ويشمل المحرمات بإطلاق، ومن المحرمات ما حُرم بسبب الصيام وهي المفطرات؟

أم أن المعنى: لعلكم تتقون سخط الله وغضبه بقيامكم بهذه العبادة الجليلة؟

ربما يحسن الوقوف على معنى خاص في هذه الآية، وآخر عام في العبادات.

أما المعنى الخاص فهو في كلمة لعل في {لَعَلَّكُمْ}؛ ما معناها، وهل هي هنا للتحقيق أم للترجي أو التعليل؟

أما {لعل} في حق الله تعالى فهي للتحقيق بلا شك ولا امتراء، إذا تحققت شروطها في الالتزام.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: إذا أخذناها من باب الترجي؛ فإن المعنى يكون: كُتِب عليكم الصيام ليقوى رجاؤكم في التقوى، كما قال الزجاج في معاني القرآن: "و(لعل) ههنا على ترجي العباد، والله عزَّ وجلَّ من وراءِ العلم أتتقون أم لا. ولكن المعنى أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى".

أم إنها للتعليل والسببية: أي: كتب عليكم الصيام لأجل أن تصلوا إلى درجة التقوى فيه، وتمتثلوا أوامر الشرع بالامتثال ونواهيه بالاجتناب..

أما التفسير الأول، والذاهب إلى أن المعنى لكي تتركوا الممنوعات من المفطرات، فهذا وإن كان موجودًا في الصيام، فليس هو المقصود، لأن هذا هو جزء الصيام المادي، والذي لا يتحقق بدونه، وكأنه يؤول إلى القول: كُتب عليكم الصيام لعلكم تصومون!

وأولى منه أن العلة هي التزام التقوى وترك الحرمات والتعصُّم عن المعاصي، والمتمثلة في فعل المنكرات وترك الواجبات.. لأن الصائم متلبس بحالة من القرب من الله والخضوع له في شفافية من الروح  ما يدعه على هذا السمت الراقي الملائكي.. وهذه هي حقيقة التقوى، والتي من سُبُلِها وأسبابها الصيام.

وأولى منهما أن الصيام لأجل تحقيق غاية، وهي الغاية من كل عبادة. قال رشيد رضا: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: "هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره واحتسابًا" (المنار، رشيد رضا [2/ 116]).

وهكذا العبادة عامة، غايتها أن تحقق التقوى، لأنها سبيل إليها ووسيلة وصيلة إلى غايتها الجليلة، كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، أي أن العلة من العبادات كلها هي تحقيق هذه الغاية، والوصول إلى درجة التقوى، والاتصاف بها ظاهرًا وباطنًا، وليست هي تلك الأعمال الظاهرة بالذات.

أي إنه إنما فرض عليكم الصيام لغاية عظيمة هي الغاية من كل عبادة، ومن كل تصرف تمتثلون فيه لرب العالمين من فعل المأمورات أو ترك المنهيات، ومن بقية العبادات؛ وأن الغاية ليست تلك الأفعال الظاهرة أو الأقوال المسترة أو الجاهرة، ولذلك قد تجد الأجر الذي يكتبه الله تعالى لمن صلى ركعتين كالذي يكتبه لمن صلى أربعًا أو أكثر، لأن ذلك المسافر التزم فعل الفرض وزاد عليه سنة القصر، إذا كان ممتثلاً، مما يدل على أن العبرة بما يصاحب الفعل من تقوى وقصد وإخلاص وما يحقق منها في القلوب.

تجد ذلك واضحًا في قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]. ومعناه: لا يصل الدم واللحم إلى الله تعالى؛ وإنما تصل التقوى،  أي يتقبل ذلك ويجزي عليه، كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (مسلم، صحيح مسلم، برقم:[ 2564]). وقد سبق درهم ألف درهم.

ولذلك كان الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول: "كم من عمل كبير صغرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية".

والمتأمل لأمثال هذا التعليل في القرآن الكريم يجد مصداق ذلك:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم، وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكُم له العبادة؛ لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم، وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171]، قال الطبري: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي.

والصيام يحقق التقوى بأمور عديدة وفي صورة كثيرة، منها:

أنه بالصيام تضيق مجاري الشيطان، فتثقل فورة الدم، فينخفض تسلط الشيطان على الإنسان، فيكون أقرب إلى التقوى.

أنه بالصوم يترك غضبه ويذكر نفسه وغيره: "اللهم إني صائم" فيترك الغضب وما تبعه فيسلم ويسلم الناس منه.. وذلك نوع من التقوى ومظهر من مظاهرها.

أنه بالصيام يمس الإنسان خنق العطش وقَرص الجوع، فيصبر وهو المختار لذلك، ولسويعات فقط، فيتذكر الفقراء الصُّوَّم وهم مفطرون طيلة العام، فقرًا وخصاصة، فيشفق عليهم ويرقّ لحالهم فيصلهم بالصدقة والرعاية، وذلك نوع من التقوى ومظهر من مظاهرها.

وتمتد أعصاب حسه إلى ملايين المسلمين الذي يعيشون تحت القهر والاستعباد، يُصب من فوق رؤوسهم الموت بآلة الحرب الخبيثة، مع ما يتفجر من تحت أقدامهك منها، مع ما ينهش بطونهم من جوع وعطش، وما يفترس أجسادهم من مرض، وهم لا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا غطاء.. فيتداعى لها كما يتدعى الجسد بالسهر والحمى إذا اشتكى منه عضوٌ واحد، فما بالك إذا كان المشتكي هو الجسد كله؛ ألا يحس به العضو الحيّ؟!

هكذا.. وإلا فتقوى ناقصة لصيام أجوف.

وهكذا يتبادل الصيام مع التقوى التأثير المتبادل حتى يتحقق أحسن صومه وأتمه، وبه يصل إلى أعلى درجات التقوى وأسماها.

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 14
  • 3
  • 52,984

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً