حتى يكون رمضان أجمل

منذ 2016-06-19

تأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «قد حضركم»، يريد أن يقول: استعدوا له استعدادًا متميزًا، ادخُلوا عليه دخولًا متميزًا، اجعلوا أداءكم متميزًا؛ حتى يكون أجملَ رمضانَ.

في رمضان مِنَحٌ عظيمة، وفرص جسيمة، يُكرم الله بها عباده، من هذه المنح: تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وسَلْسلة الشياطين.

ففي الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان، فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب جَهنَّم، وسُلْسِلَتِ الشياطين» (صحيح البخاري [3277]).

قال الإمام القرطبي -بعد أن رجح حَمْلَ هذا الحديث على الظاهر-: "فإن قيل: كيف نرى الشرورَ والمعاصيَ واقعةً في رمضان كثيرًا، فلو صُفِّدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب: أنها إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصومَ الذي حُوفِظ على شروطه، ورُوعِيَتْ آدابه.. والمقصود: تقليل الشرور منهم فيه، وهذا أمرٌ محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقلُّ من غيره؛ إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم ألا يقع شرٌّ ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غيرَ الشياطين؛ كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية" (من شرح سنن النسائي للسيوطي والسندي).

نعود إلى المِنَح العظيمة والفرص الجسيمة:

1- «فُتِّحت أبواب الجنة»، وهذا معناه أن أبواب الجنة ليست مفتوحة طوال العام، وإنما في أوقات معينة فقط، مِن هذه الأوقات: شهرُ رمضان المكرم.

إنه أثَر عظيم رائع ينعكس على حياتنا اليومية بالسكينة والهدوء، والسعادة والأمل، والرِّضا واليقين.

2- «وغُلِّقت أبواب جهنم»، وهذا يدل كذلك على أن أبواب النار ليست مغلقة طوال العام، وإنما في أوقات معينة فقط، منها: شهر رمضان المكرم.

3- «وسُلْسِلَتِ الشياطين»، وسَلْسلتها تُعطي المسلم في رمضان حالة إيمانية مرتفعة، تُعِينه على طاعة الله؛ فقد تم حَبْسُ أشدِّ أعدائه عنه.

إن هذه المِنَح تمنحنا إحساسًا بأن هذا الأيام المقبلة أيامٌ عظيمة للغاية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يهنئ أصحابه بهذه الأيام.

كان إذا دخل رمضان قال لهم: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خيرٌ مِن ألف شهر، مَن حُرِمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرَمُ خيرَها إلا محرومٌ» (رواه ابن ماجه [1341]، وخلاصة حكم المحدث -الألباني-: حسن صحيح).

تأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «قد حضركم»، يريد أن يقول: استعدوا له استعدادًا متميزًا، ادخُلوا عليه دخولًا متميزًا، اجعلوا أداءكم متميزًا؛ حتى يكون أجملَ رمضانَ.

حتى يكونَ أجمل رمضان، لا بد أن تضَعَ فيه أهدافًا:

أولًا:أن يغفِرَ الله لك.

ثانيًا:أن تحصل التقوى.

ثالثًا:أن تصلح ذات البَيْن.

رابعًا: أن تتقرب من الله.

الهدف الأول: أن تكون أهلًا لمغفرة الله:

فالله تعالى بكرَمِه ومَنِّه يريد أن يتوب علينا، يريد أن يغفر لنا؛ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]؛ ولذلك منَّ الله علينا بالعطايا، ومنَحنا الأسباب التي بها يغفِرُ لنا، مِن هذه العطايا: صيامُ رمضان وقيامه.

ففي الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذَنْبه» (صحيح البخاري [2014]، صحيح مسلم [760])، وفيهما كذلك: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه» (صحيح البخاري [2014]، صحيح مسلم [760]).

قال الحافظ ابن حجر: "والمراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية الصيام، والاحتساب: طلب الثواب من الله".

كيف يكون صيامُنا وقيامنا إيمانًا واحتسابًا؟

ونجد الجواب في توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم لنا.

أما الصيام: ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ جُنَّةٌ، فلاَ يَرْفُثْ ولا يَجهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتلهُ أوْ شاتَمَهُ، فَليَقُلْ إني صائمٌ - مَرَّتينِ - والذي نَفسي بيدهِ لُخلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عِندَ الله تعالى منْ ريحِ المِسكِ، يَترُكُ طعامَهُ وشرابَهُ وشهوتَهُ منْ أجْلِي، الصيَامُ لي وأنا أجزِي بهِ، والحسنةُ بعشرِ أمْثالِهَا» (صحيح البخاري [1894]).

فقَبول الصيام والفوز بثمرته يتوقف على أمرين:

الأول: أن يكون إرضاءً لله، وابتغاءً لمثوبته.

الثاني: أن يُعَلِّم صاحبَه الأخلاقَ والسلوك.

ولهذا أصدر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيانًا راعبًا قائلًا: «ربَّ صائِمٍ ليس لَهُ مِنْ صيامِهِ إلَّا الجوعُ، ورُبَّ قائِمٍ ليس لَهُ مِنْ قيامِهِ إلَّا السَّهرُ» ( صحيح الجامع [3488]).

وأما القيام: فقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة من الآية:238]، وسُئِلت عائشةُ رضي الله عنها عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم رمضان، فقالت: "ما كان رسولُ الله يَزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عَشْرة ركعةً، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنِهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنِهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا.." (رواه البخاري).

إذًا، يكون الصيام إيمانًا واحتسابًا إذا حجَبك عن المعاصي، ومنَعك من الشر، وكان له أثر على سلوكك وخُلقك، ويكون القيام إيمانًا واحتسابًا إذا تلذَّذْتَ فيه بالقرآن، واستمتَعْتَ فيه بالوقوف بين يدَيِ الله..

وضَعْ نُصْبَ عينيك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رغِم أنف رجُلٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفَرَ له..» (صحيح الجامع [3510]).

الهدف الثاني: أن تحصل التقوى.

حتى يحبك الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة من الآية:4]، حتى يكون الله معك: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة من الآية:194]، حتى يتقبل الله منك: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة من الآية:27]، حتى تدخُلَ الجنة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر:45-46].

المتقون قومٌ اتصفوا بصفاتٍ يرضاها الله، والتزموا أعمالًا يحبها الله، فاستحقُّوا أن يكافِئَهم الله بهذا اللقَب المشرِّف "المتَّقون".

قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].

المتَّقون قوم التزموا بالصدق في القول والعمل؛ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}  [الزمر:33].

المتَّقون قومٌ مُوفُون بعهودهم؛ {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76].

فاجعَلْ تَقْوى الله في رمضان هدفَك؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

الهدف الثالث: أن تُصلِح ذاتَ البَيْن.

مِن أكبر المشكلات التي يقع فيها كثير من المسلمين: الخِصام، والهَجْر، والتباغض، والتنافر، وذلك على مستوى الأُسَر والعائلات والجيران وزملاء الدراسة والعمل.

عمَل ضخم وهام يقوم به الشيطان الرجيم وأتباعُه مِن الجن والإنس: التفريق بين المسلمين، وإفسادُ ذات بَيْنِهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ إبليسَ يضَعُ عرشَه على الماءِ ثمَّ يبعثُ سراياهُ فأدناهم منهُ منزلةً أعظمُهم فتنةً يجيءُ أحدُهم فيقولُ فعلتُ كذا وَكذا فيقولُ ما صنعتَ شيئًا قال ثمَّ يجيءُ أحدُهم فيقولُ ما ترَكتُه حتَّى فرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه قال فيدنيهِ منهُ ويقولُ نِعمَ أنتَ» (صحيح مسلم [2813]).

فأسمى أماني الشيطان الرجيم وأتباعه من الجن والإنس: الإفسادُ في الأرض، والتفريق بين الناس، ومما يؤسَفُ له: أن الشيطان يجد من يستجيب له ويعاونه ويُسهل عليه مهمتَه بين المتشاحنين والمتباغضين.

وإصلاحُ ذاتِ البَيْن أثقلُ في الميزان يوم القيامة من كبار الأعمال الصالحة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبِرُكم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة؟»، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: «صلاحُ ذات البَيْن؛ فإن فساد البَيْن هي الحالقة» (رواه الترمذي [2509]، وصحَّحه الألباني).

فاجعَلْ مِن أهدافك في رمضان إصلاحَ ذات البَيْن.

ذات البين مع من تخاصمهم، وذات بين المتخاصمين ممن تعرفهم.

الهدف الرابع: أن تتقرب من الله.

فمَن كان الله قريبًا منه فليس ضده أحد، ومن كان الله بعيدًا عنه فكلُّ شيءٍ ضده، حتى الكلاب في الطرقات، والذُّباب في الهواء.

اجعَلْ شِعارَك في رمضان: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه من الآية:84].

ولكي تعرِفَ معنى القُرْبِ مِن الله وفضله وثمرته، تأمَّلْ هذا الحديث القدسي الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى قال: مَن عادَى لي وليًّا، فقد آذَنْتُه بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه» (صحيح الجامع [1782]).

فإذا أردتَ أن تكون قريبًا من الله، فأولُ ما ينبغي أن تقوم به أن تؤدي فرائض الله، وإذا كنت تفعل ذلك في غير رمضان -وهذا هو الأصل- ففي رمضان جَمِّل الفرائض، وحسِّنْها، ثم زِدْها بأداء النوافل، وأكثِرْ منها، واعلم أن أعظم ما يقرِّبُ العبدَ من الله: الصلاة له، وذكره، وكلامُه.

أما الصلاةُ: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة خيرُ موضوع، فمَنِ استطاع أن يستكثِرَ فلْيستكْثِرْ» (رواه الطبراني في الأوسط [1/84]، وحسَّنه الألباني).

وقال صلى الله عليه وسلم: «أقربُ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجدٌ» (صحيح مسلم [482]).

وأما الذِّكر: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «يقول اللهُ تعالَى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَنِي، فإن ذَكَرَنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرْولةً» (صحيح البخاري [7405]).

وأما القرآنُ: فهو كلامُ الله عز وجل، فهل شيء أحب إليه من كلامه؟

قال خبَّابُ بن الأرَتِّ: "تقرَّبْ إلى الله ما استطعتَ، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحبَّ إليه من كلامه".

أجمل رمضان: هو الذي تشتاق إليه وتنتظره.

أجمل رمضان: هو الذي تخرج منه محبًّا للطاعات.

أجمل رمضان: هو الذي يعطيك شِحنةً إيمانية تكفي لدفعك إلى الطاعة، وإبعادِك عن المعصية أحَدَ عشَرَ شهرًا كاملًا.

أجمل رمضان: هو الذي تخرُجُ منه وقد شعَرْتَ أن اللهَ قد رضِيَ عنكَ.

 

د. شريف فوزي سلطان

  • 0
  • 0
  • 6,691

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً