الهدي النبوي في الاعتكاف (2-2)
قد خَصَّ النبي صلى الله عليه وسلم رمضان بعبادات فَعَلَها وشَرَعَها لأمته؛ اغتنامًا لفضيلته، واكْتِسابًا لِغنيمتِه، فقام بالناس جماعة في المسجد ليالي عدة، ثم تَرَكَ الاجتماع على ذلك خشية أن يفرضَ على الناس، فكان قيام رمضان جماعة في المساجد من سُنته عليه الصلاة والسلام.
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحُسن عبادته؛ فإن الأعمار تمضي، والأعمال تُكتب، ولا ينفع العبد في آخرته بعد رحمة الله تعالى إلاَّ ما قدَّم من عمل صالح في الحياة الدنيا.
أيها المسلمون:
الاعتكاف في الليالي العشر من سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدر عليه، حاز خيرًا كثيرًا، قال عَطَاءٌ الخراسَاني - رحمه الله تعالى -: كَانَ يُقَالُ: "مَثَلُ المعْتَكِفِ كَمَثَلِ عَبْدٍ، أَلْقَى نَفْسَهُ بَينَ يَدَي رَبِّهِ، ثُم قَالَ: رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي، رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي".
ومَن عجز عنِ الاعتكاف أو تثاقل عنه، فلا أقل من أن يحرص على عمارة ليله بالصلاة والذكر والدعاء في هذه العشر المباركات؛ تأسِّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يفرغ نفسه لها، ويجتهد في العبادة فيها؛ كما قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَل العَشْرُ شَدَّ مِئزَرَهُ، وأَحيَا لَيلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ؛ رَوَاهُ الشيخان، وفي رواية لمسلم عنها رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيْرهِ.
وظاهر الأحاديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه العشر يحيي الليل كلها، ولا يخلطها بنوم كسائر الليالي، وهذا يدل على أهميتها، وفضيلة إحيائها، وعليه فيكون إحياء الليل كله في هذه العشر مخصوصًا منَ النَّهي العام عن إحياء الليل كله.
وما أجمل أن يمكثَ المسلم في المسجد بين صلاة أول الليل وآخره للقراءة والصلاة والذكر والدعاء، فلعله يدرك ليلة القدر وهو في المسجد لم يبارحه.
وله أن يحمل أهله وولده على قيام هذه الليالي المباركة، ويجب عليهم طاعته في ذلك؛ لظاهر حديث عَليٍّ - رضي الله عنه -: « »؛ (رَوَاهُ الترمذي، وقَالَ:حَسَنٌ صَحيح).
ألا فاتقوا الله ربكم أيها الصائمون، وخذوا حظكم من هذه الليالي المباركة؛ فلعل نفحة منها تصيب العبد، فيسعد في دنياه وآخرته، ولا يشقى أبدًا، وإنَّ ربَّكم غني كريم، لا يتعاظمه شيء أعطاه، فاستغفروه لذنوبكم، وسلوه حاجاتكم، ولن تخيبوا أبدًا؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وصلوا وسلموا على نبيكم.
- التصنيف:
- المصدر: